شهدنا في الأيام الأخيرة ثلاثة تطورات مهمة تتعلق بالحرب التي دخلت شهرها العاشر. الحرب التي بدأت بالغزو الإسرائيلي لغزة ثم توسعت في الجغرافيا والقوة القتالية والأطراف والأهداف، خصوصا على الجبهة اللبنانية، مع استراتيجية “وحدة الساحات”، ردا على الحرب الإسرائلية على غزة.
أوّل هذه التطورات دخول الجولان السوري المحتل كإحدى ساحات المواجهة، ولو أن تلك المواجهة ما زالت منخفضة نسبيا، ولكن الموقع الجغرافي لتلك الساحة يدفع إلى تنامي دورها المباشر وغير المباشر، كممر، في الحرب الدائرة، خصوصا على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية. أضف إلى ذلك توسع الحرب إلى البحر الأحمر ذي الأهمية الإستراتيجية بشكل خاص كممر من آسيا إلى البحر الأبيض المتوسط وأوروبا. الهجوم الإسرائيلي على ميناء الحديدة اليمني وعلى خزانات الوقود ومحطة الكهرباء هناك ضمن سياسة الرد على المشاركة الحوثية في حرب وحدة الساحات، واعتراض القوات الإسرائيلية لصواريخ حوثية قرب مرفأ إيلات، يشكل خطوة جديدة ونوعية في جغرافيا التصعيد الحاصل.
ثاني هذه التطورات ما صدر عن محكمة العدل الدولية، الرأي الاستشاري أو الفتوى الاستشارية الصادرة، بناء على طلب الجمعية العمومية للأمم المتحدة، في شأن الإجراءات والتبعات القانونية لممارسات إسرائيل التي يمكن اختصارها بإنهاء الاحتلال وكل أنشطته وأوجهه في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ودفع التعويضات المطلوبة لذلك، الأمر الذي يجب أن يوفر فرصة جديدة للجمعية العمومية للأمم المتحدة لمعاودة إصدار قرار أسوة بما حصل في العام الماضي لدعم طلب فلسطين في الحصول على العضوية الكاملة في المنظمة الدولية، وسقط العام الماضي بسبب الفيتو الأميركي.
ورغم أن لجوء واشنطن إلى استعمال الفيتو أمر غير مستبعد إذا ما أعيدت الكرة، لكن ذلك يبقى ضروريا. إنه خطوة أولى وأساسية للدفع نحو إطلاق مسار التسوية السلمية الشاملة القائمة على حل الدولتين. فلا يكفي القوى الدولية الفاعلة القول “إننا مع حل الدولتين”. رغم صعوبة تحقيق هذا الحل، يبقى الحل الوحيد الممكن لإقامة السلام الفعلي والعادل والدائم. التراجع عن هذا الهدف يعني عمليا القبول بالحلول الموقتة التي تعني عمليا الهروب إلى الأمام وغلى مزيد من التعقيدات والصعوبات التي تمنع تحقيق السلام الفعلي.
ثالث هذه التطورات يتعلق بالقرار الصادر، للمرة الأولى عن الكنيست الاسرائيلية برفض إقامة دولة فلسطينية: قرار غير مفاجئ في طبيعته وتوقيته، يذكر بأن الحل الإسرائيلي لـ”المسألة الفلسطينية” يقوم حسب السياسة الإسرائيلية الواضحة في الخطاب والممارسة على استكمال إقامة إسرائيل الكبرى من وادي الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط، ربما مع إعطاء صلاحيات إدارية أو بلدية محلية لكانتون فلسطيني أو ضمن أي صيغة اخرى لا تمس بهدف تحقيق إسرائيل الكبرى. بالطبع غزة ليست ضمن هذة الرؤية الدينية الأصولية لإسرائيل الكبرى، وبالتالي يمكن إيجاد ترتيبات خاصة بها.
يحصل ذلك عشية زيارة بنيامين نتنياهو لواشنطن وإلقاء خطابه أو توجيه رسائله عبر هذا الخطاب أمام مجلسي الشيوخ والنواب، أولا للداخل الإسرائيلي لتعزيز موقفه من خلال خطاب التشدد المنتظر، وثانيا للحليف الأميركي الرسمي حول ما هو مطلوب، وثالثا لطرفي المعركة عشية الانتخابات الرئاسية حول مطالب إسرائيل من الإدارة الجديدة التي ستفرج عنها الانتخابات في مطلع تشرين الثاني المقبل .
نعيش اليوم مرحلة “تقطيع الوقت” سواء في ما يتعلق بملء الفراغ الرئاسي في لبنان أو في التوصل إلى التسوية لوقف النار على أساس ترتيبات جديدة في غزة، إذ هنالك مسافة شاسعة في النظر إلى طبيعتها بين الأطراف المتحاربة. من الأرجح أن تستمر الحرب على جبهاتها المختلفة والمترابطة ضمن احترام قواعد قتال مقيدة وضابطة من دون أن يعني ذلك غياب أي مخاوف من انزلاق نحو حرب مفتوحة ستكون بل شك ذات طبيعة إقليمية أوسع وأشمل وتداعيات أكبر لاحقا. لكن من المرجح أن تستمر الحرب، كحرب استنزاف ذات وتيرة تشهد تصعيدا وتخفيضا، توسعا وتقلصا في ميدان القتال كما نرى حاليا. كل ذلك حتى ينجلي الموقف غداة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة بسبب الرهانات العديدة والمختلفة للأطراف المتواجهة حول اليوم التالي لتلك الانتخابات، وبهدف التوصل إلى “التسوية الكبرى” أو التسوية بين الفاعلين الكبار.
الدكتور ناصيف حتي – النهار