شكل إنسحاب الرئيس جو بايدن من السباق الرئاسي في أميركا، ضربة مباشرة لزيارة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الى الولايات المتحدة التي يصلها اليوم، ولكل من كان يعوّل عليها لا سيما أولئك الذين كانوا يمنون النفس بأن تصب نتائجها في مصلحتهم، خصوصا أن خروج بايدن من المنافسة سيؤدي الى تجميد الكثير من الملفات بإنتظار دخول الرئيس الجديد الى البيت الأبيض، مع حتمية إستمرار التوجه الأميركي لوقف إطلاق النار في غزة لحفظ ماء وجه الحزب الديمقراطي الذي يخشى أن يتحول مع مرشحته الجديدة الى ضحية من ضحايا نتنياهو.
لا شك في أن السياسة الأميركية في المنطقة يرسمها الى حد بعيد الصهاينة (ليس بالضرورة أن تكون إسرائيليا لكي تكون صهيونيا) ويرى هؤلاء أن مصلحة وجود إسرائيل كدولة طبيعية في هذه المنطقة هو أساس بالنسبة لها بفعل تطورها التكنولوجي والاقتصادي والصناعي، وبالتالي في حال وصل دونالد ترامب أو كامالا هاريس أو غيرها ممن قد يرشحهم الحزب الديمقراطي فإنه سيعمل على تحقيق تطلعات الصهاينة في هذا الاطار.
وعليه، فإن أميركا تعتبر أن إستمرار إسرائيل في حربها على غزة يشكل خسارة إستراتيجية لها، لأنها بذلك تُحرج بعض الأنظمة العربية في الاقدام على تطبيع العلاقات مع كيان وحشي قاتل يمارس حرب إبادة على شعب عربي فلسطيني، وهذا التطبيع تضعه أميركا في سلم الأولويات لكي تصبح إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة.
هذه الحسابات الأميركية الكبيرة، تتناقض اليوم مع حسابات اليمين المتطرف في إسرائيل والداعم لنتنياهو المحكوم بتنفيذ سياساته، لذلك فإن التباينات التي حصلت بين إسرائيل وأميركا حول الحرب في غزة، وهي تباينات من موقع حرص أميركا على الكيان الصهيوني.
لا شك في أن إسرائيل نشأت على سياسة العنف، وهي منذ إحتلالها فلسطين في العام 1948 ترتكب المجازر الواحدة تلو الأخرى، وتبالغ في ردود فعلها تجاه أي عمل مقاوم مهما كان بسيطا يستهدفها، كون هذا العنف يشكل العمود الفقري لسياستها، ففي العام 1982، تم إغتيال دبلوماسي إسرائيلي في لندن، فكانت النتيجة إجتياح بيروت، وكذلك في العام 2006، عندما كان عدوان الـ33 يوما بسبب خطف جنديين إسرائيليين، وكذلك بعد طوفان الأقصى الذي ألحق هزيمة تاريخية بالعدو الذي أيضا بالغ في رد فعله الى مستوى حرب الابادة.
وفي إستعراض لردود الأفعال الاسرائيلية، يتبين أن الكيان الصهيوني كان في السابق ينفذ مجازره ووحشيته من دون عناء ومن دون خوف من حساب هنا أو إدانة هناك، أو رد قاس هنالك، لكن اليوم وبعد طوفان الأقصى بات للعدوان الاسرائيلي كلفة باهظة جدا على الكيان والحكومة والجيش والمجتمع، فالصمود الاسطوري للمقاومة الفلسطينية أنهك الاسرائيليين، وجبهات المساندة من لبنان الى العراق فاليمن أربكته، وأكدت بما لا يقبل الشك أن محور المقاومة في المنطقة بات قادرا على إيذاء إسرائيل وتدفيعها ثمن سياستها غاليا.
وبالفعل، فقد بدأت إسرائيل تدفع أثمانا باهظة، فلم تعد مجازرها بعيدة عن أعين الرأي العام العالمي، خصوصا أن التطور التكنولوجي وتحول العالم الى قرية كونية، كان أكبر عدو لإسرائيل التي كشف الناشطون مجازرها ووحشيتها بالصورة والصوت، كما حققت المقاومة من خلال هذا التطور إنجازات مشهودة في إبراز المجازر التي يرتكبها العدو، أو في إبراز الضربات التي تتلقاها إسرائيل والخسائر التي تلحق بها.
كل ذلك، دفع إسرائيل بفعل سياستها المتطرفة والعدوانية نحو عزلة حقيقية بعد ما سقطت كل أقنعتها، وبات رئيس حكومتها ملاحق أوروبيا ومهدد بالسجن، فيما الاعتراف بدولة فلسطين يتوالى من كل دول العالم، بالتزامن مع توصية المجلس الكاثوليكي بعدم صحة رواية أرض الميعاد، وقرار محكمة العدل الدولية في لاهاي بضرورة إنهاء إسرائيل إحتلالها لفلسطين، وإعتبار وجودها فيها غير شرعي، ويجب عليها وقف كل الأنشطة الاستيطانية فيها والتعويض على أهلها.
وما زاد الطين بلة، هو أن طوفان الأقصى، وما خلفه من واقع عسكري وأمني وسياسي، وعلى قاعدة “الفقر يولد النقار”، فإن الهزيمة والاخفاقات المتتالية قد أخرجت الخلافات والصراعات الاسرائيلية الى العلن، حيث بدا مجتمع الكيان هجينا ومفككا ومنقسما على نفسه، ومن المتوقع أن تتضاعف هذه الصراعات مع المزيد من الاخفاقات، ما يضع إسرائيل أمام توترات حقيقية إذا لم تصل الأمور الى حرب أهلية في ظل إستمرار نتنياهو في خوض الحرب للحفاظ على مستقبله السياسي.
لذلك، فإن الهدف الاستراتيجي لأميركا هو إنزال نتنياهو عن الشجرة، بعدما فقدت إسرائيل قدرتها على الردع، وفشلت في مواجهة صمود الغزاويين، وفي الحد من حراك أبناء الضفة الغربية، وفي وقف هجمات اليمن، وفي إسكات جبهة المساندة اللبنانية، وما يدعو الى القلق أمام هذا الفشل الاسرائيلي العسكري والأمني، هو أن تلجأ أميركا ومعها إسرائيل الى تفعيل الفتن في العالم العربي واللعب مجددا على التناقضات في بعض الدول، كما تفكر حاليا في لبنان من خلال دفع البعض الى إحياء الحديث عن تطبيق القرار 1701 من جانب واحد، وعن تنفيذ القرار 1559 بالقوة.
غسان ريفي – سفير الشمال