الجمعة, نوفمبر 22
Banner

من حضن ترامب إلى أحضان هاريس

إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن إنسحابه من السباق الرئاسي في سابقة تاريخية، أعاد خلط الأوراق مجدداً، بعدما كان مال بقوة لمصلحة غريمه الجمهوري دونالد ترامب، إثر محاولة الإغتيال التي تعرّض لها الاخير ولا تزال دوافعها الحقيقية غامضة.

فبعد طول تردّد، إنصاع بايدن للضغوط الكبيرة التي طوّقته وحاصرته ودفعته في نهاية المطاف الى القرار المرّ. وهو ما عزز أوهام البعض بأنّ الدولة العميقة التي لا تحبذ عودة ترامب الى البيت الأبيض بسبب برنامج حكمه المتفهم لروسيا والمعادي لتعزيز حلف «الناتو»، إنما تتمسك باستبدال ترشيح بايدن بمرشح آخر، كون الترجيحات تمنح ترامب تفوقاً واضحاً على بايدن.

لكن عناد بايدن والذي استهلك الكثير من الوقت قبل أن يقرر إنسحابه، جعل من نائبته كامالا هاريس الخيار البديل الوحيد المتاح. ذلك أن القفز فوق ترشيحها سيؤدي الى ردة فعل عكسية لدى شريحة السود وكذلك الشرائح المتنوعة ذات الأصول الأميركية الجنوبية على وجه الخصوص، ما يعني منح ترامب بطاقة الفوز باكرا.

فثمة جدال صاخب شهدته أروقة الحزب الديمقراطي حول اختيار البديل خلال الفترة التي سبقت إعلان بايدن إنسحابه. فالذين عارضوا تسمية هاريس كانوا يقولون بأن لنائبة الرئيس عائقين أساسيين: الأول أن بشرتها داكنة اللون وتعتبر سوداء، وبالتالي لا يجب تكرار تجربة باراك أوباما بعد أقل من ثماني سنوات فقط، كون تجربة أوباما هي التي فتحت الباب أمام وصول ترامب الشعبوي. وأن تكرار هذه التجربة سيرفع من منسوب الشعبوية خصوصا في الأرياف والمناطق الداخلية.

والعائق الثاني أن مناطق الداخل الأميركي والأرياف والتي تمثل الخزان البشري لترامب كانت رفضت في السابق وصول إمرأة هي هيلاري كلينتون. ما يعني أنه مع ترشيح هاريس سيكون اختراق معاقل نفوذ ترامب صعبا ما سيعطيه أفضلية وفرصة أكبر للإنقضاض على المدن الكبرى التي تعتبر معاقل الحزب الديمقراطي.

لكن القفز فوق ترشيح كامالا هاريس بدا صعبا جدا في ظل ضيق الوقت، وبات اختيارها لا مفرا منه، ولكن مع إضفاء تحسينات ضرورية. والمقصود هنا اختيار نائب الرئيس والذي سيكون رئيس الظل والحاكم الفعلي في تكرار لتجربة ديك تشيني نائب جورج دبليو بوش والذي يعتبر المهندس الفعلي لاجتياح العراق.

ولكن يبقى لهاريس العديد من أوراق القوة التي يمكن توظيفها لصالح الحملة الإنتخابية. فعدا أنها سترفع منسوب التأييد لدى السود والأقليات المتنوعة فهي مؤهلة على محاربة ترامب في موضوع تقدمه بالعمر وهي النقطة التي كانت تركز عليها حملة ترامب ضد بايدن. وأما النقطة الأساس والتي على مايبدو تهم الدولة العميقة فهي المتعلقة بمواجهة روسيا في أوكرانيا. فلقد انتدبها بايدن في عدة مهمات الى أوروبا في موضوع الحرب الدائرة في أوكرانيا.

ويتمسك العديد من المراقبين بمقولة أن الدولة العميقة هي التي تتولى ترتيب الملف الرئاسي من خلف الكواليس، وتعطي دليلا على ذلك محاولة إغتيال ترامب التي ما تزال غامضة المعالم ومن دون بصمات أو أدلة حاسمة، تماما كمصير التحقيقات في الإغتيالات التي حصلت في بيروت وفق ما قاله بسخرية ديبلوماسي أميركي عمل في لبنان.

كذلك فإن الضغوط الكبيرة على بايدن لدفعه للإنسحاب والتي بدت وكأن جهة تقوم بتنظيمها، تعطي لأصحاب هذه النظرية دليلا إضافيا.

وهو ما يعني بالنسبة لهؤلاء تدخل أكبر ولكن من خلف الكواليس لضمان سقوط ترامب وفوز المرشح الديمقراطي بالبيت الأبيض. تماما كما حصل في محطات رئاسية كثيرة سابقا، كمثل “سقوط” آل غور لصالح جورج دبليو بوش وبفارق ضئيل للأصوات عام 2000، ومن ثم تأمين التجديد له رغم فضيحة تزوير أدلة إجتياح العراق.

ووسط هذه التبدلات المتلاحقة في المشهد الرئاسي الأميركي وصل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الى واشنطن لإلقاء خطابه الرابع أمام مجلسي النواب والشيوخ في سابقة تاريخية. وعلى الرغم من توالي الإعتذارات عن المشاركة في الجلسة وفي مقدمة هؤلاء كمالا هارس نفسها، إلا أن نتنياهو يريد من خطابه القول للإسرائيليين أنه لا يزال يحظى باحترام ومكانة كبيرة لدى أهم حليف لإسرائيل رغم الخلافات التي حصلت وما تزال.

والحقيقة أن ثمة مرارة لدى معظم الطاقم السياسي الأميركي من نتنياهو. وليس بايدن هو أول رئيس يختلف معه. فحتى ترامب تناول نتنياهو بمرارة بعد خروجه من البيت الأبيض. فهو كان يعول على أن يرد له الجميل للسخاء الكبير الذي منحه لحكومته لناحية تنفيذ الإعتراف بالقدس والجولان و”هدايا” أخرى. ولكن أظهر ترامب مرارته عندما اتصل نتنياهو مهنئا بايدن عقب فوزه في وقت كان ترامب يثير زوبعة التشكيك بنتائج الإنتخابات.

وقبل ذلك حصل صراع أيضا بينه وبين بيل كلينتون وتحديدا في العام 1998 ما جعل البيت الأبيض يشطب من برنامج الزيارة دعوة الوفد الإسرائيلي برئاسة نتنياهو الى مأدبة غداء رسمية في البيت الأبيض والإكتفاء بدعوته الى غداء في أحد مطاعم واشنطن.

لكن نتنياهو المناور من الطراز الرفيع يدرك جيدا بأن في يده ورقة التسوية في غزة، وهو الذي امتنع عن تقديمها لبايدن كونه كان واضحا أن حظوظه الإنتخابية ضعيفة. ولا شك بأنه قرأ جيدا أيضا التطورات الرئاسية المتلاحقة بدءا من محاولة إغتيال ترامب وعجز التحقيق عن التوصل الى أدلة، ووصولا الى الضغوط الهائلة التي أحرجت بايدن فأخرجته من السباق. وهو ما يعني أنه قد يكون بات أقرب لإبداء مرونة تجاه المرشحة الديمقراطية ومنحها “هديته” والعمل على تسليفها باكرا خصوصا وأنها لا تبدو ودودة جدا تجاهه.

أضف الى ذلك سبب آخر لا يقل أهمية وهو المتعلق بالإنتقام الذي قد يقوم به بايدن خلال الأشهر القليلة المتبقية من ولايته.

فبعد إنسحابه أضحى بايدن متحررا من بعض القيود ما سيجعله طليق اليدين لتصفية حساباته مع نتنياهو، وبالتالي رد الإعتبار لنفسه. ولديه أوراق كثيرة في هذا الإطار قد تصل الى حدود الإمتناع عن إسقاط قرارات ضد إسرائيل في المحافل الدولية، إضافة الى اتخاذ مواقف أكثر تأثيرا ضد مشاريع الإستيطان، وحتى فرض عقوبات على الوزراء المتطرفين. وهو ما يدفع للإعتقاد بأن نتنياهو بات أكثر قربا وواقعية للتجاوب مع خطة وقف إطلاق النار في غزة والتوقف عن خطة استهلاك الوقت.

وأغلب الظن أنه من هذه الزاوية تصاعدت الأجواء الإيجابية حول قرب التوصل لإعلان قرار وقف النار في غزة. ومن هذه الزاوية يمكن أيضا تفسير الترتيبات الجارية لكيفية حكم غزة لاحقا، والتي دخلت الصين على خطها من خلال المصالحة التي رعتها بين الفصائل الفلسطينية، والتي يفهم منها أنها تريد حجز مقعد لها. في وقت تبدو فيه إيران أن يبقى المشد الأميركي المقبل “ديمقراطي” وأن يجري تجاوز قطوع عودة ترامب الى البيت الأبيض والذي دفعها الى التلويح بالتشدد مع ارتفاع حظوظ ترامب إثر عملية إغتياله الفاشلة.

لكن السؤال يبقى حول انعكاس كل ذلك على الوضع في جنوب لبنان؟

فخلال الأسبوعين الماضيين ساد اعتقاد بأن الجبهة اللبناني ستبقى مشتعلة وربما ستزيد حماوتها وصولا الى العام 2025. لكن ومع تبدل المشهد في واشنطن ثمة آمال بإعادة وضع ملف القرار 1701 والذي عمل عمل عليه آموس هوكستين طوال المرحلة الماضية. لكن المشهد ليس بهذه البساطة. ذلك أن الترتيبات المطلوبة ما تزال بحاجة للكثير من التفاصيل. والسؤال هنا ما إذا كانت هذه التفاصيل سيجري التفاهم حولها على البارد أم على الحامي؟

فالقرار الإسرائيلي بتأجيل العام الدراسي مرة جديدة في المنطقة الشمالية لإسرائيل يرسم علامات توجس. أضف الى ذلك قرار كندا بدعوة رعاياها لمغادرة لبنان. صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تطلب كندا من رعاياها مغادرة لبنان لكن صدوره من جديد ومن دون مقدمات أو تطورات عسكرية وبشكل مفاجئ يطرح العديد من الأسئلة.

الواضح أن ثمة اتفاق كبير جرى تحضيره في الكواليس وتولاه هوكشتاين وفلسفته تتجاوز الإطار التقني البحت ليصل الى حدود تثبيت أرض صلبة لواقع جديد ودائم ويحاكي ملف إعادة ترتيب خارطة نفوذ سياسية جديدة في كامل الشرق الأوسط.

ولم يعد سرا القول بأن إنجاز المرحلة الأولى من تثبيت إتفاق وقف إطلاق النار في لبنان سيليه ملف الإستحقاق الرئاسي، وهو ما يدفع للإعتقاد أن كل التحركات التي تطرح لإنهاء الشغور الرئاسي تبقى في إطار ملء الوقت الضائع والتساجل الإعلامي لا أكثر، خصوصا وأن هنالك من يريد أثمانا متنوعة قبل فك أسر إعادة بناء مؤسسات الدولة، وهنالك في المقابل من سيرفض مد يد المساعدة أو أوكسيجين الإنعاش إذا ما حاول البعض اللعب بالمعادلة العريضة القائمة داخل السلطة.

ولكن قبل ذلك لا بد من التعويل على التطورات الرئاسية الأميركية المتسارعة على أمل أن تفتح الأبواب المغلقة.

 جوني منيّر – الجمهورية

Leave A Reply