منذ أن وقعت روسيا تحت العقوبات الأميركية والأوروبية بعد اندلاع الحرب على أوكرانيا عام ٢٠٢٢، تجهد للتكيف مع الآثار السلبية على اقتصادها، خصوصاً بعدما أدت إلى عزلها عن النظام المالي العالمي، وهو ما دفعها إلى البحث في الخيارات البديلة الآيلة للتحايل عليها وضمان استمرار التصدير أقله إلى الدول الصديقة وفي مقدمها الصين.
وكان الهدف الرئيسي تحقيق الاكتفاء الذاتي من دون الاعتماد في شكل كبير على حاجاتها من الخارج، ولا سيما في مجال الأمن الغذائي العالمي، حيث تشكل موارد روسيا من الحبوب ما يقارب ثلث الصادرات العالمية، علماً أن اعتمادها الأساسي هو على تصدير الغاز الذي خضع بدوره للعقوبات، تماماً كما فرضت دول الاتحاد الأوروبي رسوماً عالية على تصدير القمح والحبوب بسبب الحرب.
في جولة نظمتها الوكالة الفيديرالية لشؤون رابطة الدول المستقلة، والتعاون الإنساني الدولي للاتحاد الروسي”Rossotrudnichestvo” لمجموعة من الإعلاميين من لبنان ومصر وتونس وإيران، كان الهدف الإضاءة على التقدم الذي حققته روسيا في مجال الأمن الغذائي والشراكة مع الدول الصديقة، والذي أمن لها بفعل الإجراءات المتخذة اكتفاء ذاتياً كاملاً، بعدما قررت تحويل العقوبات إلى فرصة لدفع الشركات الوطنية للعمل على مزيد من الأبحاث والدراسات لتطوير الإنتاج وزيادته عبر الموارد الوطنية والتقليل من الاعتماد على المواد الأولية المستوردة، باستثناء ما يمكن أن توفره الاستثناءات والإعفاءات المدرجة في العقوبات، وهي في مجملها تتصل بالمجال الغذائي.
وعليه، كان تركيز المنظمين للزيارة على موقعين أساسيين، بين سانت بطرسبرغ حيث مقر معهد علوم روسيا للموارد الوراثية النباتية، الذي تفخر السلطات الروسية بإسهاماته في تحصين الأمن الغذائي لروسيا، ويعود تاريخ إنشائه إلى ١٣٠ سنة مضت، ومصنع “Rostselmash” الواقع على مساحة تفوق ال١٥٠ ألف متر مربع في منطقة Rostov-on-Don القريبة من الحدود الأوكرانية، حيث يتعذر الوصول إليه جواً بعد إقفال مجاله الجوي بسبب الحرب واقتصار المواصلات منه وإليه على البر (استغرقت الرحلة نحو تسع ساعات).
وتكمن أهمية المصنع بالنسبة إلى روسيا في أنه واحد من أكبر خمسة مصانع في العالم متخصص في إنتاج المعدات والآليات والجرارات الزراعية، المستفيدة من الإعفاءات، حيث قدرة الإنتاج تصل إلى ٨٥ في المئة.
عن زيارة المعهد، قال نائب مدير المعهد أليكسي زافارزين إن الهدف “لا يقتصر فقط على الحديث عن أبحاثنا، ولكن تغيير وجهة نظر الصحافيين، ومن خلالهم سيتمكن الرأي العام في إيران وتونس ومصر ولبنان من التعرف إلى أهمية النباتات لضمان حياة الإنسان، وإلى دورها في تأمين الغذاء قبل كل شيء”.
أضاف: “ان كل قطعة خبز موجودةعلى موائد الطعام في أي بلد في العالم لها ارتباط برحلات العالم الروسي نيكولاي فافيلوف مؤسس المعهد إلى الشرق الأوسط قبل 100 عام. فهو أحضر بذور النباتات الزراعية التي شكلت مجموعة ضخمة ذات أهمية عالمية، وبنوك الجينات في مختلف أنحاء العالم الآن تستخدم طريقة فافيلوف لجمع بذور النباتات وحفظها. وكانت جولة تفقدية في مختلف أقسام المعهد حول طريقة العمل اليوم على دراسة الموارد الوراثية النباتية باستخدام أحدث الأساليب والمعدات.
ونيكولاي فافيلوف أرسى كيفية تجديد مجموعات البذور النباتية بانتظام في عينات جديدة، ويعول القيمون على المعهد على رحلات استكشافية جديدة على طول طرق فافيلوف، بما في ذلك إلى مركز الشرق الأوسط للأصل النباتي”.
واستكملت الجولة بزيارة مصنعي “فينكس” و”توراس بلاست”، وهما من أكبر المصانع في بطرسبورغ لإنتاج المنتجات البلاستيكية والتعبئة والتغليف.
وكانت الجولة الإعلامية بدأت من موسكو عبر طاولة مستديرة شارك فيها عدد من الخبراء المعنيين بالأمن الغذائي، حيث عرض فاسيلي فلاديميروفيتش لافروفسكي، وهو مستشار في “Rosselkhoznadzor ” الروسية، وهي هيئة اتحادية تمارس الإشراف على الطب البيطري والإنتاج الزراعي والمنتجات الثانوية في الاتحاد الروسي، التعاون مع دول عديدة لضمان سلامة الغذاء والمنتجات الزراعية قبل التصدير . كذلك تحدث بالنيابة عن هيئة الجمارك الروسية وخبرات الجمارك الروسية مدير مركز الأعمال التجارية الزراعية والأمن الغذائي في RANEPA أناتولي تيخونوف الذي قدم عرضاً عن جودة المنتجات المحلية والجهد المبذول لإنتاج الأنواع الأساسية من الغذاء وتوفير الدولة للحبوب وفرص التصدير. وتناول المسار الجديد للأمن الغذائي والإنجازات بعد اعتماده ودور روسيا في معالجة مشاكل الغذاء العالمية.
وفي الامن الغذائي أيضاً، عرضت نائبة رئيس جامعة روزبيوتك للتطوير التكنولوجي والتسويق ناتاليا مورينا فرص التعاون والتكامل بين البلدان في مختلف مجالات السياسة العامة والاقتصاد العالمي والتعليم والعلوم والتكنولوجيا الحيوية، ومعالجة الحبوب، وإنتاج معدات التبريد، ومعالجة الخضروات، وإنتاج الخبز، والمشروبات.
بدوره عرض الأستاذ المشارك في قسم الأحياء والكيمياء في جامعة فولوغدا الحكومية ديمتري كريفوشيف فوائد الهندسة الوراثية، وتكنولوجيا التربية المتسارعة، والتكنولوجيا الحيوية الزراعية، وإمكانات التكنولوجيا الحيوية لتطوير الاقتصاد الإقليمي.
بالنسبة إلى المسؤولين الروس، الأمن الغذائي هو مفتاح المستقبل، ولذلك تجهد روسيا لبناء اقتصاد حيث الأمن الغذائي مضمون ومستدام، معتمدة على كونها البلد الأول الذي أسس بنكا غذائيا للحفاظ على التنوع النباتي والحبوب لضمان سلامة الغذاء. وحافظت على أعداد كبيرة من النباتات والخضر لضمان سلامة الغذاء،
وقد ساهمت العقوبات في تقوية الاعتماد على الصناعات المحلية والاستغناء عن الغرب لضمان عدم حدوث أي نقص في إمدادات المعدات الصناعية والجرارات الزراعية وكل ما يتعلق بالزراعة والأرض الزراعية، فأنشأت المصانع وخطوط الإنتاج بمواردها الخاصة. وكان للصين دور كبير في مساعدة روسيا على تخطي التداعيات السلبية للعزلة الناتجة من العقوبات، مقابل بيعها الفائض من القمح والحبوب للدول المصنفة صديقة.
سابين عويس – النهار