الخميس, سبتمبر 19

هوكشتاين في مهمته الجديدة: الآمال متواضعة

عندما طلب الرئيس الأميركي جو بايدن من كبير مستشاريه آموس هوكشتاين التوجه فورا الى بيروت للعمل على احتواء التصعيد الحاصل، كانت التعزيزات العسكرية الاميركية تبلغ ذروتها في المناطق البحرية المحيطة بالشرق الأوسط، وهو ما عزز الإنطباع بأن هوكشتاين لا يحمل مبادرة فعلية بين يديه بل ضغوط إضافية ترتكز على التنبيه من خطورة المرحلة المقبلة.

ولا شك في أن المحطة الأبرز للموفد الأميركي تبقى في عين التينة كونها تشكل حلقة التواصل مع حزب الله. لكن في الوقت الذي كان اللقاء منعقدا بين الرئيس نبيه بري وهوكشتاين كانت الجبهة الجنوبية تشهد غارات إسرائيلية متتالية وعنيفة، ما يعطي إنطباعا واضحا حيال نيات نتنياهو. وقبل ذلك كان وزير الخارجية الأميركية أنطوني بلينكن يرجىء زيارته التي كانت مقررة الى إسرائيل. ولم يخف الرئيس الأميركي جو بايدن تشاؤمه حين أقر بأن الأمر أصبح أكثر صعوبة، ولو أنه أردف قائلا أنه لا يستسلم.

في الواقع، فإن الآمال كانت معلقة على موافقة نتنياهو على وقف إطلاق للنار يسمح بسحب التوتر المتفاقم في المنطقة ويفتح الباب أمام البدء بمعالجة الجبهة المفتوحة عند الحدود اللبنانية. وصحيح أنه من السابق لأوانه “نعي” هذا الضغط الدولي الكبير في سبيل تحقيق وقف النار، لكن لا بد من الإقرار بأن الإشارات الصادرة من إسرائيل تبدو سلبية وغير واعدة. وهو ما يعني أن على لبنان التحوط من خطورة المرحلة المقبلة، على رغم من “اللمعة” التفاؤلية التي سعى هوكشتاين لامرارها وسط عرضه المسهب لمخاطر الإنزلاق في اتجاه الحرب. وكان لافتا قوله هذه المرة أن وقف إطلاق النار في غزة سيسمح للذهاب فورا الى فتح الملف لإنجاز الاتفاق المطلوب في جنوب لبنان. مع العلم أن حزب الله كان وما يزال يقول أن وقف النار في غزة سينسحب فورا وقفا للنار في لبنان. وثمة فارق واضح بين وقف تلقائي لإطلاق النار وبين ترتيب الإتفاق الحدودي والذي يمكن أن يكون على البارد كما على الحامي.

لكن الجميع بات يدرك أن لنتنياهو واليمين المتطرف حسابات أخرى حول نظرته الى الحرب المفتوحة. فهذا الفريق يراها فرصة تاريخية لولادة ثانية للكيان الإسرائيلي. ما يعني أن الأهداف المطلوبة لم تتحقق بعد في الشكل الكافي، وهو ما يعبر عنه بالقول: “تحقيق الإنتصار الكامل.”

ومن هنا جاءت الضربات الإسرائيلية والتي خرقت كل الخطوط الحمر، إن في الضاحية الجنوبية لبيروت أو في طهران. وهو ألحق ذلك باستمرار التصعيد الميداني الى جانب تحضير إسرائيل للحرب الواسعة.

فمن غير المنطقي أن تعمد إيران الى ابتلاع الإهانة التي تلقتها وهي التي نفذت ردا على استهداف قنصليتها في دمشق. وبالتالي هي غير قادرة على على الوقوف في موقع المتفرج بعدما وصلت إسرائيل الى غرفة نومها. قد تكون القيادة الإسرائيلية التي اتخذت قرار الضربة قد أخذت في الإعتبار الظروف الإقتصادية الصعبة لإيران والانقسامات السياسية الداخلية، لكن وبسبب ذلك فإن الأنظمة التي يرتكز جزء أساسي من حضورها على الهيبة تصبح ملزمة بالرد وإلا فستكون كمن يحكم على نفسه بالضعف خارجيا وداخليا.

وفي لبنان فإن حزب الله يقاتل وسط ظروف صعبة ودقيقة تفرض عليه التروي في حساباته، ولكنه ملزم في الوقت عينه برد الصفعة وإلا سيصبح في موقع دفاعي على المستوى الداخلي. لكن حسابات إيران وحزب الله لا بد أن تكون آخذة في الإعتبار محاذرة الإنزلاق في اتجاه الحرب التي يتمناها نتنياهو ويسعى إليها. وهنا المعضلة في كيفية اختيار أسلوب الرد. فآخر شيء تريده طهران المغامرة بـ”حزب الله” كونه يشكل ركيزة متينة وناجحة لمشروعها على مستوى المنطقة بكاملها.

والإدارة الديموقراطية في واشنطن بدت شديدة الحرص على محاذرة الإنزلاق الى أي تصعيد واسع في المنطقة بسبب التوقيت الإنتخابي الحساس جدا وسط تنافس محموم. ذلك أن توسيع دائرة النزاع ستلزم البيت الأبيض بإقحام القوات الأميركية في الدفاع عن إسرائيل تنفيذا لإلتزاماتها المتكررة. وهذا الوضع قد يفتح الباب أمام استهداف القوات الأميركية المنتشرة في المنطقة، ما سيعني إرتفاع مخاطر سقوط جنود أميركيين وبالتالي إنعكاس ذلك سلبا على الحزب الديموقراطي في مقابل إستفادة المرشح الجمهوري دونالد ترامب إنتخابيا.

ونتنياهو العائد من زيارته المثيرة لواشنطن يندفع بقوة في اتجاه التصعيد، والواضح أن جهود البيت الأبيض لترويضه يقابلها تشجيع ودعم من مؤسسات أميركية أخرى نافذة ظهرت مؤشراته من خلال التفاعل الكبير مع كلمته امام الكونغرس. وليست هنا الإشارة الوحيدة.

فالحشود العسكرية الأميركية والتي عادت مجددا الى المنطقة لم يعد طابعها دفاعي فقط. فمع وصول حاملة الطائرات لينكولن والغواصة الأميركية العاملة بالطاقة النووية والمزودة صواريخ “توماهوك” يصبح انتشار القوات الأميركية في وضعية الهجوم. وكذلك إقرار صفقة سلاح لمصلحة إسرائيل بقيمة 20 مليار دولار في هذا التوقيت بالذات إنما له مدلولاته العميقة.

في السابق كان البعض يضع التحركات العسكرية الاميركية في إطار توجيه الرسائل الصارمة لتعزيز الردع. وقد يكون ذلك صحيحا. لكن المشكلة أن ضعف إدارة بايدن ووجود أطراف فاعلة في واشنطن داخل مراكز صنع القرار، لا تلتزم كليا سياسة البيت الأبيض بالسماح لنتنياهو بتحويل هذه التعزيزات لمصلحة مشروعه الحربي والساعي لنسف المعادلة القائمة في المنطقة.

إذاً يعود هوكشتاين في مهمة لا تبدو ميسرة بسبب التعنت الإسرائيلي، ولو أنه حمل معه مقدارا بسيطا من التفاؤل. ومن المنطقي الإعتقاد أن محطته الأساسية والأهم في عين التينة حملت ثلاث ركائز:

ـ الأولى وتتعلق بتوضيح اللغط الذي ساد حول ما قيل عن ضمانات أعطاها بعدم استهداف الضاحية الجنوبية. ومن الطبيعي أن يعمد الى سرد حقيقة ما حصل وعدم إعطائه أي كلام بهذا الخصوص، مع تسجيل انزعاجه الشديد من ذلك.

ـ الثانية، باستعراض المخاطر الكبيرة القائمة، والتهديدات الإسرائيلية القائمة وبأنها جدية وحقيقية ولا بد من التعاطي معها على هذا المستوى، وهو ما يستوجب ضبط الواقع الأمني وعدم الإنجرار في مسار التصعيد، ودرس الخطوات جيدا.

أما الركيزة الثالثة فهي بإعادة إحياء النقاط التي كان تم طرحها حول سبل إنجاز التفاهمات المطلوبة لتبريد جبهة الجنوب والبدء بالمرحلة الأولى التي كان تم التوافق حولها في إطار مشروعه المؤلف من ثلاث مراحل.

وفي هذا الإطار لا بد من أن يكون هوكشتاين قد نسق أو اطلع على المبادرة الجديدة التي نسجتها بريطانيا حول حل مقترح للوضع في الجنوب. مع الإشارة هنا الى ارتفاع منسوب النشاط البريطاني في المرحلة الأخيرة سواء عبر السفارة في بيروت أو عبر زيارة وزيري الخارجية والدفاع الاخيرة معا للبنان.

وفي المشروع البريطاني الذهاب الى تفاهمات غير معلنة، تؤدي الى الإتفاق على خفض متدرج للمواجهات العسكرية، بحيث تصل في المرحلة الأخيرة الى الحد الأدنى عبر حصر النار في مناطق محددة وتكون نائية أو غير سكنية في انتظار تحقق وقف إطلاق النار في غزة. كذلك يحمل المشروع البريطاني الإعتماد على الأبراج للمراقبة. لكن الطرف اللبناني لا يسمع إجابة واضحة حول ما إذا كانت هذه الأبراج ستتولى المراقبة على جانبي الحدود وبالمسافة نفسها. وفي الواقع ثمة شكوك كبيرة في أن تقبل حتى إسرائيل بكل هذا المشروع طالما أن الحرب كشفت عن تقنيات بمستوى رفيع باتت تمتلكها إسرائيل وتجعلها تستغني عن كل هذا المشروع المطروح.

ويبقى الخطر الأكبر في حال فشل مشروع وقف إطلاق النار في غزة وبالتالي حشر طهران وحزب الله للذهاب الى رد إنتقامي، وهو ما يعمل له نتنياهو. والمشكلة أن الإعتداء الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية قد يكون وضع في حسابات نتنياهو أن الخط الأحمر الذي كان مرسوما حولها قد تمت إزالته، بالتالي أن يكون وضعها العسكري أصبح مشابها للبقاع الشمالي على سبيل المثال. وفي هذه الحال تصبح أبواب الخطر مفتوحة على مصراعيها.

ووفق أوساط ديبلوماسية معنية فإايرانن الإدارة الأميركية والتي ما تزال خطوط تواصلها مفتوحة مع طهران، تعتقد بقوة ووفق تقييمها أن إيران لا تريد الحرب وليست مستعدة لها. لكن السؤال هنا هو ما إذا كان هذا الوضع سيريح نتنياهو وسيردعه عن خوض جنونه الحربي أم على العكس سيجعل منه عامل إغراء لدفعه في اتجاه إشعال المنطقة؟

غالب الظن أن هذا الواقع المتكىء على تعزيزات عسكرية أميركية ضخمة ستضاعف من حالة جنونه.

جوني منيّر – الجمهورية

Leave A Reply