الأسئلة والتساؤلات نفسها ما زالت مطروحة، عند جميع المعنيين من أطراف وقوى دولية وإقليمية في ما يتعلق بمسار التطورات والسيناريوات المحتملة بعد أشهر عشرة ونيف من حرب غزة التي تبدو مفتوحة في الزمان، ولو أنها حتى الآن محاصرة نسبيا في المكان.
سيناريوات تراوح بين هدن متقطعة ووقف هش للقتال، وحرب استنزاف ممتدة أو الذهاب نحو حرب إقليمية واسعة ومفتوحة. وإذا كانت الأطراف الدولية المؤثرة وفي طليعتها الولايات المتحدة قادرة على لجم إسرائيل عن توريط واشنطن وقوى أخرى في حرب إقليمية تبقى تداعياتها خطرة ومجهولة، سواء على أهل الإقليم أو على الأطراف الدولية ذات المصالح الحيوية في الإقليم، فإن الأطراف الدولية أو تلك الوسيطة بصيغ مختلفة من دور الوسيط، غير قادرة على وقف الحروب الصغيرة في مساحتها، القائمة والمترابطة بأشكال مختلفة بين ساحاتها، الحروب التي تشهد تغييرا أو إسقاطا تدريجيا للعديد من الخطوط الحمر في قواعد اللعبة التي كانت ناظمة لإدارة الصراع على الأرض قبل حرب غزة.
واشنطن أعلنت بعد اجتماع الدوحة يومي الخميس والجمعة الماضيين عن بداية ردم الفجوات أو تضييقها. نفحة التفاؤل هذه تراهن على نجاح الحراك الديبلوماسي الذي انطلق مباشرة غداة الدوحة ومع وصول وزير الخارجية الأميركى إلى إسرائيل الأحد، في عملية التحضير لاجتماع القاهرة هذا الأسبوع، استكمالا لاجتماع الدوحة. هناك رهان أميركي على النجاح في دفع إسرائيل إلى التخلي عن شرطين لتكريس سيطرتها الأمنية والعسكرية الكلية على القطاع: الأول يتعلق بمعبر رفح ومحور فيلادلفيا للإمساك بالحدود الفلسطينية (غزة) المصرية، والثاني بالسيطرة على ممر نتساريم، أو شطر غزة إلى قسمين، الأمر الذي يعني السيطرة على الانتقال بين شمال غزة وجنوبها. رهان يبقى من الصعب، أو شبه المستحيل، الدفع بحكومة نتنياهو للقبول به ما لم تكن هنالك ضغوط دولية فاعلة وأخرى على الأرض، تعزز كل منها الأخرى، تفرض على إسرائيل القبول بذلك.
هذه الشروط الإسرائيلية لا يمكن القوى الفلسطينية وكذلك العربية المعنية، أو المنخرطة بأشكال مختلفة في التفاوض، القبول بها.
ما يبعد أيضا احتمال النجاح في التوصل إلى هدنة فعلية كخطوة أولى، هو التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية من خلال زيادة النشاط الاستيطاني لتقطيع أوصال الضفة الغربية وتهيئة ظروف ضاغطة وطاردة لأبنائها، إلى جانب سياسة الاعتداءات المتكررة للمستوطنين على المواطنين الفلسطينيين لدفعهم إلى الهجرة القسرية. ويأتي اقتحام باحات المسجد الأقصى الثلثاء الماضي في “ذكرى خراب الهيكل”، مؤشرا آخر لاستكمال سياسة التهويد للضفة الغربية، سياسة تهيئ من دون شك لصدام كبير آت يزيد تعقيدات “سياسة الهدن” المطروحة، ويكشف هشاشتها. أضف إلى ذلك أن إسرائيل تعتبر ملف “أمن شمال إسرائيل” منفصلا كليا عن مسألة غزة، وأن التوصل إلى اتفاق حول غزة، في ما لو حصل، لا يعني القبول بالعودة إلى الوضع الذي كان قائما على الجبهة اللبنانية. فمقابل إستراتيجية “وحدة الساحات” تنطلق إسرائيل من إستراتيجية الفصل بين “الساحتين” الفلسطينية واللبنانية. صحيح أن التوصل إلى هدنة على الجبهة الفلسطينية، رغم صعوبة ذلك كما أشرنا، يساهم في خفض الصراع على الجبهة اللبنانية، لكنه لا يوقف الصراع بحسب المفهوم الإسرائيلي.
يطالب لبنان بالتطبيق الكامل لقرار مجلس الامن ١٧٠١، لكن الواقع الميداني والمعطيات القائمة والناظمة للصراع تجعل من الصعب التطبيق الكلي لهذا القرار ضمن أفق زمني معقول.
ما يمكن التوصل إليه، في حال الهدنة المطولة تحت عنوان وقف إطلاق نار هش على جبهة غزة، هو تفاهم جديد غير مكتوب ينظمه ويضمنه “الطرف الثالث” لإدارة الوضع القائم الجديد، على الحدود الجنوبية للبنان، أسوة بما كان قائما من قبل.
حان الوقت، تلافيا لإبقاء الصراع مفتوحا وعرضة لكل أنواع التصعيد والمخاطر المختلفة على الإقليم ككل، أن تذهب القوى الدولية الفاعلة من خلال مجلس الأمن لفرض وقف شامل لإطلاق النار في الحرب الدائرة، المتشابكة جبهاتها والقابلة للتوسع عموديا، كما نشهد، وكذلك أفقيا، والقابلة للتوظيف في لعبة القوى في الإقليم، والتي تحمل مخاطر جمة على الأمن والسلم الإقليميين. الوقف الشامل وغير المشروط للنار شرط ضروري وغير كاف بالطبع، إذ يفترض بعد ذلك التحرك الدولي الفاعل لإطلاق مسار السلام الشامل والدائم والمبني على القرارات الدولية المعنية والمعروفة وعلى حل الدولتين. أمر دونه الكثير من الصعاب، لكنه الوحيد، إذا ما تم تحقيقه، يمكن أن يوفر الأمن والسلم والاستقرار في جغرافيا استراتيجية أساسية في المنطقة.
• وزير الخارجية سابقاً.
الدكتور ناصيف حتي – النهار