هل يمكن أن ينكمش الاقتصاد اللبناني أكثر مما هو عليه الآن؟ في المسار الطبيعي، من دون أي عوامل خارجية، من الصعب الاستنتاج بأن النشاط الاقتصادي سينكمش أكثر مما بلغه حتى الآن. وبحسب رأي عدد من الاقتصاديين، فإن معالم الناتج المحلّي الحالية أصبحت واضحة. اليوم؛ إذ يتلقّى لبنان نحو 7 مليارات دولار من التحويلات الآتية من الخارج والتي تُشكّل العصب الأساسي للاقتصاد ونسبتها 30% من الناتج المحلي. كما يُصدّر لبنان بنحو 3 مليارات دولار، ويستقبل زوّاراً ينفقون بما لا يتجاوز ثلاثة مليارات دولار، ويتلقى مساعدات للسوريين واللبنانيين، تبلغ في حدّها الأقصى نحو ملياري دولار، ما يترك مجالاً للنشاط الداخلي بقيمة تصل إلى 6 مليارات دولار. تفكيك مكوّنات الناتج تشي بوجود صعوبة في انكماش كبير لا يرتبط بانكماش التدفقات أو المساعدات، إذ إن ثلثي الاقتصاد مموّل من الخارج وينطوي على مخاطر التقلبات الخارجية. الاقتصاد إلى أين؟ هذا السؤال يجسّد الواقع الحالي للحركة الاقتصادية في لبنان. وهذا هو الشكل النهائي للاقتصاد اللبناني بعد الأزمة. فمع استمرار المسار المُتّخذ اليوم، وهو عبارة عن وقوف الدولة موقف المتفرّج من دون أي تدخّل يهدف إلى دفع النمو الاقتصادي والحركة الاقتصادية، لا يمكن أن تتقلّص هذه العوامل التي تُشكّل الحركة الاقتصادية أكثر مما هي عليه اليوم. فلا التدفقات ستتقلّص (من دون حدوث أمر استثنائي)، ولا الصادرات ستتقلّص، وهي التي استطاعت أن تتخطّى الأزمة والظروف القاهرة التي فرضتها على بيئة الإنتاج في البلد. والحركة الاقتصادية المحليّة تأقلمت مع هذا الواقع الجديد، ومن الصعب أن تتقلّص أكثر من ذلك. وأخيراً، المساعدات القادمة إلى البلد هي في أقل مستوياتها منذ زمن، بسبب القرار السياسي الخارجي بتخفيضها إلى أدنى المستويات.
الوضع الحالي هو عبارة عن استقرار في القعر، فمسار الانحدار وصل إلى نهايته، ليس بسبب قيام الدولة اللبنانية بأي إجراءات مضادة للأزمة، وهي لم تفعل ذلك أصلاً، بل لأن ما حصل حتى الآن هو أقصى الأضرار على الصعيد الاقتصادي. دينامية الاقتصاد والمجتمع في لبنان هي التي تفرض هذا الاستقرار في هذا المستوى من القعر. وفي المقابل، لا يوجد أي مسار نمو حقيقي في الأفق، وكل التفاؤل الذي كان مطروحاً (قبل بداية الحرب) عن نمو بسيط كان مُقدراً للاقتصاد اللبناني أن يعيشه في 2023 و2024، هو زيادة طبيعية. فمع مرور الوقت، يخرج المزيد من اللبنانيين ليستقروا خارج البلد، ومن الطبيعي أن يسهم هذا الأمر في ارتفاع حجم تدفقات التحويلات المالية من الخارج ما ينعكس ارتفاعاً بسيطاً في حجم الاقتصاد.
لكن، هل هذا ما يُمكن أن يُعتمد عليه لمستقبل الاقتصاد اللبناني؟ الأكيد أن هذا المسار لا يجعل الاقتصاد اللبناني مقاوماً للأزمات الداخلية ولا الخارجية. بل، يمكن القول إن الاقتصاد اللبناني اليوم مكشوف تماماً أمام أي أزمة خارجية (مثلما حدث في الأزمة المالية العالمية في 2007-2008)، وهو ما يمكن أن ينعكس على التدفقات المالية من الخارج. وهو أصلاً عودة إلى نموذج الريع الذي بُني عليه الاقتصاد اللبناني قبل الأزمة، والذي كان من المفترض استغلال الأزمة للخروج منه. الحل الوحيد للخروج من هذا القعر هو تحفيز الحركة الإنتاجية داخل البلد، ما شأنه أن يُوسّع الحركة الاقتصادية المحليّة بشكل أساسي، ويزيد من الحركة التصديرية، وهذا ما يمكن أن يدفع نحو النمو الصلب والمستدام.
ماذا عن الحضيض الاجتماعي؟
ما وصل إليه حال الاقتصاد اللبناني اليوم هو الحضيض فعلاً. لكن، لا يشمل هذا الكلام انعكاس الحالة الاقتصادية على المجتمع، لأن هذه النتائج تعتمد على التراكم، وهي قابلة للازدياد سوءاً مع مرور السنوات. وهذا التراكم متعلّق أيضاً بالتراكمات الإيجابية السابقة، فعلى سبيل المثال الكثير من الأسر اللبنانية استطاعت أن تتأقلم مع الواقع الجديد، ولكن هناك جزء كبير منهم تأقلم عن طريق استخدام ثرواته المُجمّعة سابقاً والتي لم تكن مُوظّفة في القطاع المصرفي، وهي على شكل أصول مثل الذهب والعقارات وغيرها. هذه الثروات هي عبارة عن تراكم إيجابي سابقٍ للأزمة، سواء أكانت ثروات مُجمعة من قبل الجيل الحالي أم موروثة عن تراكم ثروة جيل سابق، وهي الآن تتضاءل مع مرور الوقت لأن الأسر تستخدمها في عملية التأقلم. فمن الأسر من باع ذهبه أو أرضه ليكمل تعليم أولاده أو من أجل الحصول على خدمات طبيّة لم يعد هناك من يغطيها (مع الحالة التي يشهدها الضمان الاجتماعي وانهيار قدرة وزارة الصحة على التغطية إلخ…).
مع ضمور هذه الثروات، تبدأ الانعكاسات الاجتماعية الحقيقية بالظهور، ومنها التغيّرات الهيكلية في الطبقات الاجتماعية، ومعها توسّع هوّة اللامساواة في الثروة. فمع الواقع الحالي، هناك من يبيع أصوله من أجل الاستهلاك، وفي المقابل هناك من يشتري هذه الأصول من أجل حفظ قيمة أمواله. بالتالي، هناك طبقة معينة في المجتمع ينخفض حجم ثرواتها، في المقابل تتزايد حجم ثروة الطبقة المقتدرة، وهذا الواقع هو توسّع الهوّة بعينه.
الحضيض الحقيقي ليس ذلك الاقتصادي، أو ما يظهر في الحركة الاقتصادية، بل هو الحضيض الاجتماعي وما ينتج منه من تغيرات هيكلية في الديموغرافيا والطبقات الاجتماعية وغيرها من النتائج المترتبة على واقع الحضيض الاقتصادي. هي نتائج ضمور دور الدولة، الذي كان يُشكّل، مع حدّه الأقل، نوعاً من شبكة الأمان الاجتماعية، سواء أكان عبر التعليم الرسمي، أم الضمان الاجتماعي، أم تغطيات وزارة الصحّة. صحيح أن هذا الشكل لم يكن الأنسب من ناحية العدالة الاجتماعية، ولكنه في نهاية الأمر كان شبكة أمان للمجتمع. مع خروج هذه الشبكة من الخدمة، أصبح المجتمع مكشوفاً أمام نتائج الواقع الاقتصادي الذي وصل إلى الحضيض.
ماهر سلامة – الأخبار