لم تقتصر تداعيات الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان منذ خريف العام 2019 على الجانب المالي والمعيشي فحسب، بل امتدت إلى عمق النسيج الاجتماعي، وأدّت إلى تداعيات خطيرة على النمو السكاني. فقد أثقل انهيار العملة الوطنية وارتفاع التضخم وغلاء أسعار الغذاء والدواء، كاهل الأسر اللبنانية، مما دفع العديد منها إلى تأجيل أو التخلي عن الإنجاب لينخفض بذلك معدل الولادات.
وفي دراسة مقارنة للأرقام الرسمية الصادرة عن المديرية العامة للأحوال الشخصية، قامت بإجرائها “الدولية للمعلومات”، تبيّن أن معدلات المواليد في لبنان شهدت تراجعاً حاداً خلال السنوات الأخيرة، حيث تراجع النمو السكاني بنحو 40 في المئة في انعكاس لشيخوخة المجتمع اللبناني.
السكان والأزمة: قبل وبعد
سجلت الفترة بين عامي 2016- 2019 زيادة في عدد السكان بلغت 254,095 فردًا، حيث وصل عدد الولادات إلى 354,866 فردًا مقابل 100,771 وفاة، بمتوسط سنوي بلغ 63,523 فردًا. وشهدت هذه الأرقام تحولاً جذرياً بعد الأزمة، لاسيما خلال الفترة 2020-2023، إذ انخفض عدد الولادات إلى 271,913 فردًا مقابل ارتفاع الوفيات إلى 119,101 فردًا أي بزيادة مقدارها 152,812 فردًا وبمتوسط سنوي وصل إلى 38,203 فردًا.
ففي العام 2023، بلغ عدد الولادات 66,866 فردًا منهم 34,264 ذكرًا و32,602 أنثى مقابل 26,284 وفاة منهم 14,087 ذكرًا و12,197 أنثى، بزيادة 40,582 فردًا، موزعين بين 20,177 ذكرًا و20,405 إناث.
وتؤكد هذه الأرقام التوزيع الجندري للولادات والوفيات في لبنان وفق النمط السائد خلال السنوات السابقة، حيث يفوق عدد المواليد الذكور عدد المواليد الإناث، وكذلك عدد الوفيات الذكور عدد الوفيات الإناث. ومع ذلك، أشارت النتائج إلى زيادة طفيفة في عدد الإناث بنسبة 1.13 في المئة مقارنة بالذكور.
أقضية متفاوتة
الدراسة أظهرت تباينًا ملحوظَا في معدلات النمو السكاني بين الأقضية اللبنانية كاشفةً عن علاقة واضحة بين الطائفة والأداء الديموغرافي ضمن هذه الأقضية. فالمناطق الزراعية ذات الأغلبية الإسلامية سجّلت ارتفاعاً في معدل الولادات، بينما عانت المدن من تراجع ملحوظ حيث كانت الزيادة السكانية ضئيلة أو شبه معدومة. فعلى سبيل المثال، سجّل قضاء المتن الزيادة الأدنى 11 فردًا فقط، ومن بعده كسروان 69 فردًا وبشري 87 فردًا. أما الزيادة الأعلى فكانت في عكار وبلغت 7,678 فردًا وبعلبك الهرمل 6,381 فردًا وصور 3,146.
كما أشارت إلى أنّ نسبة الزيادة تعتبر مرتفعة أو “مستقرّة” في كلّ من قضاء عكار (1.56 في المئة) الذي احتل المرتبة الأولى من حيث في نسب الزيادة، يليه قضاء المنية- الضنية (1.3 في المئة)، فقضاء بعلبك- الهرمل (1.2 في المئة) ثم البقاع الغربي (0.97 في المئة). في المقابل، سجّل قضاء المتن (0.0046 في المئة) أدنى نسبة للنمو السكّاني، فكسروان (0.55 في المئة) وبشرّي (0.13 في المئة).
تهديد ديموغرافي
وكان صندوق الامم المتحدة للسكان قد أشار في وقت سابق إلى أنّ لبنان يشهد تحولًا ديموغرافيًا حيث من المتوقع أن يرتفع عدد الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 60 عامًا وما فوق إلى كثر من الضعف نحو 765.000 (أي 11.2 في المئة من مجموع السكان) إلى 1.7 مليون (27.1 في المئة) بين 2020 – 2050. كما ستشهد الفئة العمرية بين 15 و24 عاماً انخفاضاً بنسبة ثلث خلال الفترة نفسها.
وأشارت الإحصائيات إلى أن 15.4 في المئة من النساء اللبنانيات فوق سن التقاعد و13 في المئة من الرجال في نفس الفئة العمرية يعيشون على دخل لا يتجاوز نصف متوسط الدخل القومي للفرد. وتعاني شريحة كبيرة من كبار السن من النساء والرجال غير اللبنانيين من الفقر، حيث تصل نسبة الفقر بين النساء إلى 33.7 و35.8 في المئة على التوالي. وأظهرت التقديرات إلى أن 9.8 في المئة فقط من كبار السن قد حصلوا على معاش تقاعدي في عام 2020. هذا ويواصل كبار السن العمل بعد سن 60، حيث لا يزال يعمل 63.5 في المئة من الرجال و15.8 في المئة من النساء الذين تتراوح أعمارهم بين 64-60 عامًا و25.1 في المئة من الرجال و4.1 في المئة من النساء الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا وما فوق.
فاتورة الشيخوخة
تشكل الشيخوخة السكانية عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد وعائقًا كبيرًا أمام النمو، مما يفاقم العديد من التحديات، أبرزها انخفاض عدد السكان في سن العمل، حيث يؤدي ذلك إلى نقص حاد في القوى العاملة الشابة، مما يترتب عليه تراجع في الإنتاجية والنمو الاقتصادي، وارتفاع في تكاليف العمالة وتلك المرتبطة برعاية المسنين، وبالتالي انخفاض القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني المتردي أساسًا وزيادة هشاشته أمام الصدمات الداخلية ولخارجية.
وتؤدي شيخوخة السكان إلى ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية حيث يتطلب تخصيص حصة أكبر من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق على هذا القطاع لتلبية الاحتياجات المتزايدة، مما قد ينعكس سلباً على القطاعات الحيوية الأخرى. وقد أضافت أعباء الأزمة الاقتصادية وجائحة كورونا وانفجار المرفأ في الرابع من آب عام 2020 مزيداً من الضغوط على النظام الصحي المنهك لجهة ارتفاع تكلفة النقل للعاملين في المجال الطبي وامدادات الوقود للمستشفيات والانقطاع المتواصل للكهرباء، فضلاً عن سوء البنية التحتيّة ونزوح المهارات والكوادر الطبية والانخفاض الحاد في توافر الادوية واللوازم الطبية. هذا وتتفاقم معاناة الرعاية الصحية خاصة في ظل استمرار عجز موارد الدولة وموازنتها العامة.
كما يساهم التغير الديموغرافي بشكل كبير في تقلص القاعدة الضريبية، وذلك بانخفاض عدد الأفراد في سن العمل القادرين على دفع الضرائب. إذ يؤدي هذا التراجع إلى تقلص القاعدة الضريبية وانخفاض الإيرادات والجباية وزيادة العبء على الميزانية العامة، مما يحد من قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية كالمعاشات التقاعدية والرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية، ويدفع بها نحو المزيد من العجز المالي وارتفاع الدين العام.
القنبلة الموقوتة
يصف صندوق النقد الدولي شيخوخة السكان، بـ “القنبلة السكانية” التي تهدّد الاقتصاد والمجتمع على حد سواء، مشيرًا إلى أنّ التحدي الديمغرافي الأبرز قد تحوّل من مرحلة النمو السكاني السريع إلى مرحلة شيخوخة السكان.
وينطبق وصف الصندوق على الواقع اللبناني إذ يًمثّل التراجع الحاد في معدلات المواليد دليلاً قاطعًا على عمق الأزمة التي يعيشها، والتي تحمل في طياتها تداعيات خطيرة على مستقبله الديموغرافي والاجتماعي والاقتصادي. فالبلد الذي خسر خيرة شبابه جراء الحروب والهجرة ، يواصل نزف طاقاته الشابة وفقدان وقوده الديموغرافي، وبالتالي خسارة القوة الدافعة التي يُعوّل عليها إعادة الإعمار و تحقيق التقدم وبناء وطن قوي ومزدهر.
سوليكا علاء الدين – لبنان الكبير