الإثنين, سبتمبر 16

العرب بين جدلية البكاء على الأطلال واستعادة دورهم المقاوم – عماد ياغي

كتب عماد ياغي – مدير مركز آمالنا للدراسات-

على مر العصور، كانت الحضارات تعيش صعودا وهبوطا، وبالنسبة للعرب، كان تاريخهم متأثرًا بأحداث عظيمة أثرت على وجودهم، سواء على مستوى الأرض أو الفكر. وبين هذه التحديات الكبرى، نجد جدلية “البكاء على الأطلال” مقابل “استعادة الدور المقاوم”. هذه الثنائية تختزل في طياتها جوانب نفسية، تاريخية وثقافية عديدة تعبر عن مشاعر عميقة لدى العرب.

“البكاء على الأطلال” هو تعبير شاعري قديم ارتبط بالشعر العربي الجاهلي، إذ كان الشاعر يبدأ قصيدته بتأمل الأطلال الباقية من ديار أحبته وأيام مجده الضائعة. كان الأطلال رمزا للزمن الماضي والمكان الذي شهد أزهى لحظات الحياة، وهو يعكس إحساسا بالحزن والأسى على الزمن الذي ولى ولن يعد.

في الواقع، لا يمكن إنكار أن هذا الحنين للأطلال يعبر عن ميل طبيعي لدى البشر. إذ يعكس انشغالا بالماضي ومحاولة لفهم الحاضر عبر استدعاء الذكريات. بالنسبة للعرب، كان البكاء على الأطلال يعبر عن الحزن على فقدان حضاراتهم العظيمة، سواء حضارة الأندلس أو بغداد أو غيرها من مراكز الإشعاع الفكري والعلمي التي تعرضت للتدمير.

ولكن، إذا ما كان هذا الحنين للماضي قد أصبح معيقا للنهوض والعودة، فإنه قد يتحول إلى نوع من السلبية. فالمجتمعات التي تظل غارقة في الذكريات قد تفشل في إدراك حاجتها للتغيير والإصلاح. هكذا يتحول البكاء على الأطلال من شعرٍ رومانسي إلى حالة ثقافية تجر المجتمعات إلى التخلف وتثقلها بأعباء الماضي.

على الجهة الأخرى من الجدلية، نجد استعادة العرب للدور المقاوم . انه أحد القيم التي تربت عليها المجتمعات العربية عبر التاريخ، حيث كانت حماية الأرض والدفاع عنها وعن العرض والكرامة تشكل جزءًا لا يتجزأ من هوية الفرد والجماعة. من الأندلس إلى فلسطين، ومن الصحراء إلى المدن الكبرى، قدم العرب تضحيات لا تحصى في سبيل الحفاظ على أرضهم والدفاع عنها.

تُعتبر المقاومة جزءا لا يتجزأ من التاريخ العربي، حيث شكلت سمة بارزة في مواجهة التحديات والتهديدات الخارجية التي تعرضت لها الأمة العربية عبر العصور. من محاولات الاحتلال والاستعمار إلى الدفاع عن الهوية الثقافية والحضارية، برزت المقاومة العربية كقوة دافعة للتغيير والتحدي وحفظ الكرامة. يتجلى تاريخ المقاومة العربية في فصول متعددة على مدار الزمن، من مراحل ما قبل الإسلام وحتى المقاومة الحديثة للاحتلالات الأجنبية في القرن الحادي والعشرين وأبرزها المقاومة الاسلامية في لبنان.

شهدت الجزيرة العربية قبل الإسلام سلسلة من النزاعات والمقاومات المحلية ضد مختلف القبائل التي حاولت السيطرة على المنطقة. كانت هذه المقاومات تأخذ أشكالًا مختلفة، بدءًا من المعارك بين القبائل إلى مواجهة الغزاة القادمين من مناطق أخرى . القبائل العربية كانت ترى في حماية أراضيها وشرفها أمرًا مقدسًا، وكانت تقاوم أي محاولة للسيطرة على مواردها أو إهانتها.

مع ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي، تغيرت طبيعة المقاومة العربية، حيث أصبحت المقاومة موجهة بشكل أكبر نحو الدفاع عن الأمة الإسلامية والمجتمع الإسلامي الجديد. أولى هذه المقاومات تجسدت في الدفاع عن الدولة الإسلامية في مواجهة هجمات قريش وقبائل أخرى في شبه الجزيرة العربية، وبعد ذلك في مواجهة الإمبراطوريات الكبرى مثل الإمبراطورية البيزنطية .

بعد وفاة الرسول (ص) ، استمرت المقاومة العربية في شكل الفتوحات الإسلامية، التي يمكن اعتبارها جزءًا من حركة المقاومة الواسعة ضد الاستعمار الثقافي والديني للإمبراطوريات الكبرى. لم تكن هذه الفتوحات مجرد توسعات عسكرية، بل كانت دفاعًا عن الوجود الإسلامي ونشره كرسالة حضارية وثقافية.

في القرن الحادي عشر الميلادي، تعرضت الأمة العربية للغزو الصليبي الذي استهدف الشرق الأوسط، ولا سيما القدس. وكانت هذه الحروب أحد أبرز محطات المقاومة العربية الإسلامية في العصور الوسطى. توحيد الصفوف العربية والمسلمة أدى الى استعادة القدس بعد معركة حطين عام 1187م. المقاومة ضد الصليبيين لم تكن فقط عسكرية، بل كانت أيضا مقاومة ثقافية ودينية تهدف إلى الحفاظ على هوية الأرض العربية.

في القرن الثالث عشر الميلادي، برز تحدٍ آخر وهو الغزو المغولي، الذي وصل إلى قلب العالم العربي، مستهدفا بغداد ودمشق. غير أن المقاومة العربية والمسلمة نجحت في كبح هذا التهديد بقيادة المماليك في معركة عين جالوت عام 1260م، حيث تم إيقاف زحف المغول عند أبواب مصر والشام، في انتصار شكل نقطة تحول في التاريخ العربي والإسلامي.

في القرون اللاحقة، وبالأخص في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، واجه العرب موجة جديدة من التحديات مع وصول القوى الاستعمارية الأوروبية. كانت هذه الفترة صعبة للغاية إذ تعرضت العديد من الدول العربية للاحتلال من قبل قوى الهيمنة مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.

كانت المقاومة في هذه الفترة عنيفة، وشهدت العديد من الثورات الشعبية والحركات التحررية. في الجزائر، على سبيل المثال، قاد الأمير عبد القادر حركة مقاومة شرسة ضد الاحتلال الفرنسي في القرن التاسع عشر، حيث استمرت لأكثر من 17 عامًا. كذلك شهدت مصر مقاومة ضد الاحتلال البريطاني، وكان أحمد عرابي وأتباعه في طليعة هذه المقاومة في ثورة 1882.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتقسيم الوطن العربي بموجب اتفاقية سايكس بيكو، اندلعت العديد من الثورات العربية ضد الاستعمار. في سوريا ولبنان، كانت هناك ثورات ضد الانتداب الفرنسي، أبرزها ثورة الشيخ صالح العلي وثورة إبراهيم هنانو وثورة سلطان الأطرش. وفي العراق، قاد العرب ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني، التي أجبرت بريطانيا على تعديل سياستها في العراق وإقامة نظام حكم ملكي.

كما شهدت فلسطين أشرس حركات المقاومة ضد الاستعمار البريطاني والمشروع الصهيوني، بدءا من ثورات 1920 و1936، وصولا إلى مقاومة الاستيطان اليهودي والاحتلال الإسرائيلي في العقود اللاحقة. هذه المقاومة لم تتوقف حتى يومنا هذا، وهي تعد من أطول حركات المقاومة المستمرة في التاريخ الحديث وتاريخ العمل المقاوم في العالم حيث قادها وما زال حزب الله رافعا لواء تحرير الاراضي اللبنانية وفلسطين عبر أقوى مقاومة شهدها تاريخ العالم ألا وهي المقاومة الإسلامية.

في القرن الحادي والعشرين، استمرت المقاومة الاسلامية في مواجهة الاحتلالات والتهديدات الخارجية وأسست بما بات يعرف بمحور المقاومة .

تاريخ العرب في المقاومة هو قصة صمود وكفاح مستمر عبر العصور. من محاربة الغزاة الصليبيين والمغول إلى مواجهة الاستعمار الأوروبي والاحتلال الصهيوني، كانت المقاومة العربية تعبيرًا عن رغبة مستمرة في الحفاظ على الكرامة والحرية. ما يميز هذه المقاومة أنها ليست مجرد معارك عسكرية، بل هي نضال حضاري وثقافي واجتماعي، يعبر عن تطلعات أمة تسعى دائمًا للحفاظ على هويتها ومكانتها في التاريخ.

الدفاع عن الأرض ليس فقط معركة بالسيف أو البندقية، بل هو أيضًا معركة فكرية وثقافية. إنه صراع لإثبات الذات والحفاظ على الهوية في مواجهة التحديات الاستعمارية والهيمنة الثقافية والاقتصادية. هذه الروح المقاوِمة تعبر عن استعداد العرب للتضحية بكل ما هو غالٍ من أجل الحفاظ على وجودهم وهويتهم.

الجدلية بين البكاء على الأطلال والدفاع عن الأرض تكشف لنا عن الصراع الداخلي بين الماضي والحاضر، بين الاستسلام للحزن والعودة إلى الأمجاد القديمة، وبين المواجهة والبناء من أجل المستقبل. قد يكون البكاء على الأطلال شكلا من أشكال الحنين العاطفي المبرر، لكنه لا يمكن أن يكون بديلا عن العمل الجاد والمقاومة الحقيقية للحفاظ على الأرض.

في النهاية، يتطلب الأمر من العرب التوازن بين استذكار الماضي كجزء من تراثهم الثقافي والحضاري، وبين التطلع إلى المستقبل بشجاعة وثقة. شرف الدفاع عن الأرض يجب أن يكون الدافع الأكبر للحفاظ على وحدة الأمة العربية، بينما يجب أن يكون الحنين للأطلال دافعا للإبداع والإصلاح بدلا من الانغماس في الحزن.

الفرق بين البكاء على الأطلال وشرف الدفاع عن الأرض هو في الأساس فرق بين الماضي والمستقبل. وبينما يجب على العرب أن يعتزوا بماضيهم المجيد، يجب عليهم أيضا أن يكونوا قادرين على النظر نحو المستقبل بإرادة قوية وقدرة على التحدي، لأن المستقبل يتطلب منهم التحدي والإصرار لبناء أجيال قادرة على حمل رسالة العرب بثبات وشرف.

Leave A Reply