الجمعة, سبتمبر 20

حوار معجّل أم انهيار مؤجّل؟

أحد أوجه الانقسام القائم والمتزايد في لبنان مع ”حرب غزة” ثم استراتيجية وحدة الساحات، والذي يساهم في تكريس الشلل المؤسساتي بسبب الفراغ في الموقع الأول في السلطة: رئاسة الجمهورية، وبالتالي وجود حكومة تصريف أعمال لا حكومة مكتملة الصلاحيات، يتعلق بالذهاب الى الحوار بين الأطراف السياسية الفاعلة. هنالك شبه قناعة تزداد رسوخاً مع الوقت بأن انتخاب الرئيس يرتبط بالتسوية مهما كانت طبيعتها. التسوية التي سيتم يوماً التوصل إليها في غزة: تاريخ أزمات لبنان وانتخاب الرئيس عموماً يندرج في ما صار إرثاً أو شبه تقليد سياسي أو نوعاً من القدرية السياسية في لبنان. يصف البعض الوضع الراهن غضباً أو استسلاماً لواقع أو تهكماً بأن الطريق الى بعبدا (الرئاسة) ينطلق من غزة مروراً بمحطات أخرى للتوصل الى التفاهم الذي “ينتج” سياسياً الرئيس في شخصه أو في السمات والشروط التي يجب أن تتوافر فيه، ثم يختاره أو ينتخبه المجلس النيابي حسب ما سبق.

لكن الوضع الراهن مقارنة مع ماضي التجارب اللبنانية يتسم بوجود عناصر ثلاثة تزيد من تعقيدات التوصل الى التسوية رغم ازدياد الحاجة الى ذلك :

أولاً، تسارع مسار الانهيار اللبناني الاقتصادي والسياسي بتداعياته المختلفة، وهذا يستدعي الإسراع في وقف النزف الحصل والقاتل في “الجسم“ اللبناني. فعنصر الوقت أكثر من مهم في هذا المجال، وفيما يزداد الاستقطاب حدة بالتالي يزداد الشلل السياسي.

ثانياً، الأزمة المستمرة والمتصاعدة ولو المنضبطة لدرجة ما حتى الآن بحروبها المختلفة والمتعددة والمتداخلة ليست مقيدة هذه المرة في الإطار اللبناني كما كانت في الماضي مما كان يسهل من احتوائها وتسويتها. صارت اليوم أشمل وأوسع بجغرافيتها وأطرافها وتعقيداتها وفي طبيعة المواجهات الحاصلة وتشابكها بالأدوار والأهداف وتداعياتها المختلفة ربحاً وخسارة على مستو ى الإقليم الشرق أوسطي ككل.

ثالثاً، الشرق الأوسط اليوم مسرح مواجهات، وإن بدرجات مختلفة، يمتدّ من الخليج مروراً بالبحر الأحمر وصولاً الى البحر الأبيض المتوسط. وستحكم تداعيات ونتائج الحروب القائمة طبيعة النظام الإقليمي الجديد الذي سيتبلور من هذا المخاض المفتوح في الزمان والمكان وكذلك أوزان وأدوار القوى الإقليمية وطبيعة تفاهماتها التي ستحكم لدرجة كبيرة طبيعة العلاقات في الإقليم.

في خضم هذا الوضع هل يبقى لبنان في غرفة الانتظار؟ هذا هو السؤال المطروح بقوة.

في الدول التي تحكمها المؤسسات، عندما يحصل فراغ في السلطة مهما كانت الأسباب، مما يشل أو يضعف عمل ودور المؤسسات الأساسية، ولبنان ليس من هذه الفئة، يجري الإسراع، ولا نقول التسرع، في العمل على ملء الفراغ الحاصل بغية انتظام عمل المؤسسات وعودتها للقيام بدورها ومهامها الوطنية، مهما كانت الخلافات السياسية، خاصة أمام التحديات الجسام التي تهدّد الدولة.

لكن في لبنان فإن السلطة تقوم عملياً وواقعياً على فيديرالية من المذهبيات السياسية التي تناقض بطبيعتها منطق وثقافة دولة المؤسسات. لكن لا يجوز ولا ينبغي الاستمرار في الرضوخ لهذا الوضع السائد. نحن اليوم بأمس الحاجة للتفاهم حول مقترح الحوار الذي طرحه رئيس المجلس النيابي باسم “الطرف“ الذي يمثله ورفضه “الطرف الآخر“ باعتبار أن هدف هذا الحوار، كما يردّد الطرف الأخير، هو تمرير مرشح الطرف الأول الى رئاسة الجمهورية بسبب المعطيات القائمة على أرض الواقع وطبيعة الحوار وتنظيمه وإدارته كما هو مطروح.

وغني عن القول إن من السهل الاستمرار في حوار اللاحوار الحاصل، أو ما يمكن وصفه بحوار الطرشان، وتوفير الحجج والبراهين عند كل طرف عن مسؤولية الآخر بشأن استمرار الفراغ الحاصل والمدمر والذي تزداد تكلفته على الجميع مع مرور كل يوم.

إن المطلوب اليوم لإنقاذ لبنان من مسار الانهيار السريع والمستمر منذ سنوات، حوار جاد شامل، من حيث القضايا والمشاركة، حول “حزمة اتفاق” كما ذكرنا مراراً في الماضي وذكر الكثيرون. من الطبيعي والصحي أن نختلف في السياسة وفي الأولويات السياسية وفي التنوع العقائدي والفكري، وهذا مصدر إغناء للوطن. ولكن لا يمكن ولا يجوز أن يكون ذلك على حساب ما يجب أن نتفق عليه من قواعد وأسس لبناء وإدارة الدولة وللأولويات الناظمة للحياة الوطنية ولعلاقاتنا الخارجية: إنه مسار ليس بالسهل والبسيط ولكنه ضروري “لإنقاذ المركب اللبناني من الغرق”.

حزمة الاتفاق في الحوار المطلوب تبدأ بالاتفاق على برنامج إصلاح (أسمّيه برنامج إنقاذ) متعدد الأوجه شامل وتدريجي يجري الالتزام به وبكل مندرجاته، والاتفاق على تشكيل “حكومة مهمة” تكون بمثابة فريق عمل وانتخاب الرئيس الذي يستطيع أن يقود سفينة الإنقاذ. الرئيس الذي يملك الرؤية والإرادة والالتزام بمفهوم دولة المؤسسات وتعزيز هذا المفهوم على صعيد الممارسة، وبضرورة الإصلاح الشامل والتدريجي وبدور ناشط وفاعل للبنان على الصعيدين الإقليمي والدولي، الأمر الذي يسهم في تعزيز الأمن الوطني للبنان.

خلاصة القول أنه في خضم التحديات المتعددة والمترابطة التي تعصف بلبنان والمنطقة علينا الإسراع في تكوين السلطة القادرة على التعامل بنجاح مع التحديات الخارجية والداخلية التي يواجهها لبنان. فماذا ينفع الصراع من أجل الإمساك بالسلطة، باسم عناوين وشعارات مختلفة، فيما ينهار الوطن وتتفكك الدولة؟

 الدكتور ناصيف حتي  -النهار

Leave A Reply