لم يكن اعتقال حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة وتوقيفه خارج دائرة التوقعات، إلا أن توقيته أثار موجة من الاستغراب في الأوساط المالية والسياسية والشعبية، لا سيما وأنّه جاء قبيل استحقاق اللائحة الرمادية الصادر عن مجموعة العمل المالي الدولية (FATF). فالحاكم الذي تربّع على عرش حاكمية “المركزي” على مدار ثلاثة عقود، كان قد خضع في وقت سابق لجلسات تحقيق محلية وأوروبية بشأن شبهات تراكم أصول عقارية ومصرفية بصورة غير قانونية وإساءة استخدام أموال عامة خلال فترة توليه الحاكمية. كما لاحقته تهم عديدة متعلقة بغسل الأموال والاحتيال والاختلاس حتى وصل الأمر إلى إصدار مذكرة اعتقال دولية بحقه.
سلامة.. قيد التوقيف
إعتقال سلامة جاء على خلفية التحقيقات الجارية في العقود الموقعة بين مصرف لبنان وشركة الوساطة المالية اللبنانية “أوبتيموم إنفست”، والتي شملت عمليات تداول في سندات الخزينة وشهادات الإيداع بالليرة اللبنانية، بالاضافة إلى تحصيل الشركة عمولات غير مشروعة من هذه العمليات، ليتم توقيف الحاكم عقب انتهاء جلسة الاستجواب الخاصة به.
ما هو السبب الحقيقي وراء الاعتقال والتوقيف اليوم؟ سؤال واحد، يحمل في طياته عشرات الاحتمالات وتبقى الاجابة مُبهمة حتى اللحظة.
يعتقد بعض المراقبين أن توقيف الحاكم الأسبق هو مجرد محاولة لتحويل الأنظار عن الفشل الذريع في إدارة القطاع المالي ولتخفيف حدة الانتقادات الموجهة إليه، بينما يعتبرها البعض الآخر مجرّد خطوة لجذب أنظار المجتمع الدولي وتحسين مكانة لبنان تحديداً لدى مجموعة العمل المالي وصندوق النقد الدولي، وذلك في ظل التقييم المُرتقب للمجموعة خلال الأسابيع القليلة المقبلة، والذي قد يدفع لبنان إلى القائمة الرمادية. وبالتالي، فإن الوضع استدعى تحركاً انقاذياً خصوصاً وأنّ عدم وجود إجراءات قضائية بشأن الجرائم المالية المزعومة هي واحدة من الثغرات الرئيسية التي سلطت الضوء عليها مجموعة العمل المالي، وقد يكون هذا التوقيف بمثابة إشارة إلى بدء تحرك القضاء نحو الملفات المالية الحساسة. وعليه، فإن التوقيت قد يحمي لبنان من خطر الادراج على اللائحة الرمادية.
ماذا تضمّن تقرير (FATF)؟
تقرير مجموعة العمل المالي (FATF) كشف عن نقاط ضعف في نظام لبنان لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، من شأنها أن تهدد سمعة القطاع المالي اللبناني وتضع البلاد في مواجهة عقوبات دولية. ودعا إلى ضرورة قيام السلطات المحلية بإجراء إصلاحات جوهرية في حزمة من التوصيات الأساسية حصل فيها لبنان على درجة “ملتزم جزئي أ”، ما يستدعي حتماً إجراء تعديلات على القوانين والتدابير النافذة، بما يتناسب مع مقتضيات الامتثال لكامل المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الارهاب.
يُشار إلى أن لبنان حاز على درجات مرضية، ولو غير مكتملة، في التقييم العام للالتزام الفني، بحيث نال درجة “ملتزم” أو “ملتزم إلى حد كبير” في 34 توصية من أصل 40 تعتمدها الهيئات الرقابية الدولية.
وفي ما يتعلّق بقياس الفاعلية، حصل لبنان على تقييم متدنٍ، بحيث أظهر التقرير أنه يعاني من نقص في الفاعلية في مجال مصادرة الأموال الإجرامية، وأن الادعاءات والأحكام القضائية الصادرة في جرائم تبييض الأموال، يجب أن تكون أكثر اتساقاً مع المخاطر، لا سيما لناحية وجود عقوبات متناسبة ورادعة بشأنها. في المقابل، نجح لبنان في الحصول على درجات “متوسطة” يمكن تطويرها في 9 نتائج مباشرة من أصل 11 توصية واجبة الالتزام التام. وأكّد التقرير التزام المصرف المركزي والقطاع المصرفي بمتطلبّات مجموعة العمل المالي (FATF).
الرمادية تخنق الاقتصاد
في خضم الأزمات التي تعصف به، يتعرّض لبنان لضغوط متزايدة من مجموعة العمل المالي لإصلاح نظامه المالي ومكافحة الجرائم المالية، بحيث يواجه خطر التصنيف الرمادي والتعرض لعقوبات اقتصادية ومالية قاسية في حال عدم معالجة الثغرات الموجودة. فما هي عواقب إدراج لبنان على اللائحة الرمادية؟ هذا التصنيف الذي يضع البلاد في خانة الدول غير المتعاونة في مكافحة الجرائم المالية وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
إن دخول لبنان اللائحة الرمادية، يعني وضع النشاط المالي والمصرفي اللبناني تحت مجهر الرقابة الدولية، أي إخضاع جميع التحويلات المالية للتدقيق الشديد، بما في ذلك تجميد الأصول الموجودة ومنع تدفق الاستثمارات الجديدة. كما ستتفاقم معاناة القطاع المصرفي، بحيث ستزيد العقوبات الدولية المفروضة من الضغوط عليه، ما يؤدي إلى مواجهة المصارف اللبنانية صعوبات بالغة في التعامل مع المصارف المراسلة الأجنبية، وذلك بسبب المخاوف المتعلقة بشأن ارتفاع مستوى المخاطر في النظام المالي اللبناني، الأمر الذي يحد من قدرتها على تنفيذ التحويلات الدولية وتسهيل المعاملات التجارية. بالاضافة إلى ذلك، سيمنح هذا الاجراء العقابي الضوء الأخضر للأعمال المالية غير المشروعة، مثل التهرب الضريبي وتبييض الأموال ما يضعف من فاعلية الاجراءات الرقابية التي يتخذها المصرف المركزي. وتبقى الخشية الأكبر من أن يؤدي تصنيف لبنان الرمادي إلى عزله مالياً واقتصادياً، وبالتالي دفعه خارج النظام المالي العالمي، خصوصاً في ظل الشغور الرئاسي والشلل المؤسساتي واستمرار حكومة تصريف الأعمال، التي لا تمتلك الصلاحيات الكافية لاتخاذ القرارات الاصلاحية الحاسمة.
ولم يعد خافياً أن التحول المتزايد نحو الاقتصاد النقدي، مدعوماً بغياب الشفافية، وضعف الرقابة المالية، ووجود فساد مستشرٍ، قد فتح الباب على مصراعيه أمام الأنشطة المالية غير المشروعة، محوّلاً لبنان إلى ملاذ آمن لهذه الممارسات ما هدد بصورة مباشرة استقرار النظام المالي والنقدي.
معركة وجود
بعد أن كان مُهدّداً بالإدراج على لائحة مجموعة العمل المالي في بداية الألفية، تمكّن لبنان من تحقيق إنجاز كبير بالخروج منها في العام 2002. وشكل هذا النجاح حافزاً قوياً للمضي قدماً في الاصلاحات، ففي العام 2015، شهدت البلاد نقلة نوعية في مجال مكافحة الجرائم المالية، مع إقرار قوانين تتوافق مع المعايير الدولية. وتُوّجت هذه الجهود بإصدار قانوني مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة في عامي 2020 و2021 على التوالي، بدعم من المصرف المركزي الذي زاد من وتيرة عمله لمواكبة هذه التشريعات وتعزيز الرقابة المصرفية.
اليوم، ومع اقتراب انتهاء فترة السماح التي منحتها مجموعة العمل المالي للبنان، تقف البلاد على مفترق طرق حيث يشكّل القرار المرتقب صدوره، تحدياً وجودياً للاقتصاد اللبناني المحاصر بقبضة الانهيار والعقوبات الدولية المُحتملة. وعلى الرغم من المساعي الحثيثة التي يبذلها الحاكم بالإنابة وسيم منصوري لتجنب سيناريو التصنيف الرمادي، إلا أنّ الخطر لا يزال يلوح في الأفق مع عدم الحصول على ضمانات وتطمينات كافية.
وعليه، فإن الاجراءات القضائية وحدها غير كافية لحل الأزمة، ولا تضمن إحراز أي تقدم يُذكر في المفاوضات مع الهيئات والمؤسسات الدولية، نظراً الى تلكؤ الدولة المزمن وعدم إظهارها أي رغبة جادة في الشروع بأي من الإصلاحات الهيكلية المطلوبة، على الرغم من الضغوط الدولية المتزايدة. فالتخلص من قيود التصنيف، يتطلّب خطة عمل شاملة تجمع بين الإجراءات الحكومية والتشريعية والقضائية تهدف إلى إعادة هيكلة الدولة ومعالجة مكامن الضعف في النظام المالي والمصرفي، والتوصل إلى تسوية عادلة لقضية الودائع، بالاضافة إلى تعزيز الشفافية وآليات الرقابة والمحاسبة. وتبقى الأولوية اليوم الشروع الفوري في تطبيق إصلاحات باتت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، كونها السبيل الوحيد لاستعادة الثقة المحلية والدولية وجذب رؤوس الأموال والاستثمارات وإطلاق عجلة الاقتصاد.
بين توقيف رياض سلامة ومساعي وسيم منصوري، يعيش لبنان واللبنانيون حالة من الترقب الحذر، علّ تشرين المقبل يأتي حاملاً معه تحولاً يُخرج البلاد من أزماتها الخانقة.
سوليكا علاء الدين – لبنان الكبير