التقدّم الذي حقّقته مرشحة الحزب الديموقراطي الأميركي كامالا هاريس قد يكون أفرح البعض، خصوصاً الشريحة التي تخشى من عودة المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بسبب التحالف الخفي، ولكن المتين، بينه وبين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. لكن إذا نظرنا الى المسألة بتمعن أكبر، فلا بدّ من ارتفاع منسوب القلق، خصوصاً خلال الفترة الفاصلة عن اليوم الإنتخابي الأميركي الكبير.
ذلك أنّ نتنياهو الساعي الى حشر المرشحة الديموقراطية من خلال توجيه اللكمات لإدارة بايدن الديموقراطية عبر البركان المفتوح ضدّ الفلسطينيين، سيعمل على رفع مستوى السخونة بأكبر مقدار ممكن، علّه بذلك يحشر الإدارة الديموقراطية أكثر، ما قد يفقدها نقاطاً ثمينة ترتد سلباً على حملة هاريس، وسط تنافس متقارب وحاد، وحيث تدور المعركة من بيت إلى بيت، وفق ما يقوله مسؤول كبير في الماكينة الإنتخابية للحزب الجمهوري.
صحيح أنّ الحرب الدائرة في غزة والضفة الغربية جاءت في المرتبة الأخيرة بين 13 قضية تمّ اختيارها وفق استطلاع لمؤسسة “كوربس” أجرته في آب الفائت، لكن التنافس المحموم يدفع الى كسب كل صوت، وهو ما يجعل كل القضايا ذات أهمية كبرى.
وفي الإجمال، لم تعط المناظرة الرئاسية مساحة واسعة للحرب التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين، وهو ما يؤكّد نتيجة استطلاع “كوربس”، لكن وعلى رغم من ذلك، جاء التركيز من زاوية دعم إسرائيل وحمايتها أكثر بكثير من الاهتمام بمآسي الفلسطينيين. وقد يكون تفسير ذلك بالنسبة الى الحزب الديموقراطي ما أظهرته نتائج الإستطلاع الذي أجراه المجلس الديموقراطي اليهودي- الأميركي، والذي أظهر أنّ 72% من اليهود الأميركيين سيقترعون لمصلحة هاريس. وهذه النتيجة قد تفاجئ البعض، لكن مع شيء من التدقيق يصبح التفسير أكثر وضوحاً. فإدارة بايدن وفي إطار مواجهتها القاسية مع حكومة نتنياهو كانت تتكئ على الشريحة العلمانية لليهود الأميركيين، والتي هي على خلاف عميق مع مشروع نتنياهو ومن خلاله مع اليمين الإسرائيلي بمجمله، والذي يسعى لاستثمار الحرب الدائرة لتحقيق قيام الدولة اليهودية عبر “إنهاء” القضية الفلسطينية. وهذا المشروع الذي يعمل له اليمين الإسرائيلي المتدين، يعتبره اليهود العلمانيون بأنّه من دون أفق، وهو انتحار لإسرائيل كونه غير واقعي، وسيدفع لإعادة تأجيج عمليات استهداف إسرائيل في مرحلة لاحقة، فيما المفروض إنجاز تسوية تاريخية في هذه المرحلة تؤدي الى إقفال ملف هذا النزاع مرّة واحدة ونهائية. ولكن هذا الخلاف الحاصل يقف عند حدود دعم إسرائيل حربياً وعدم تعريض وجودها للخطر. وهذا بالضبط ما يفسّر السياسة التي تبدو متناقضة ومتقلّبة لإدارة جو بايدن.
وإذا كانت الغلبة داخل اللوبي اليهودي الأميركي لمصلحة العلمانيين، إلّا أنّ النسبة تصبح معكوسة على مستوى الداخل الإسرائيلي، حيث يبدو اليمين وكأنّه لا يزال يحافظ على غلبته. ومن هذه الزاوية بالتحديد يمكن مقاربة الضفة الغربية وجنوب لبنان.
فوفق مفهوم هذا اليمين الحاكم، فإنّ الإنتقال عسكرياً في اتجاه الضفة الغربية يصبح وفق مفهوم “توراتي” لا أمنياً، كما هو الحال مع غزة. ما يعني أنّ الذهاب في اتجاه “يهودا والسامرة” يصبح أولوية مطلقة، وفق مشروع نتنياهو ورفاقه. والمقصود هنا السعي الى جعل حياة الفلسطينيين في الضفة جحيماً حقيقياً لدفعهم إلى الرحيل. أليس هذا ما يفسّر تدمير البنى التحتية للقرى والبلدات التي يدخلها الجيش الاسرائيلي في الضفة؟
ومن هنا يمكن تفسير مخاوف ملك الأردن المحشور بين حدّين، واحد في الضفة والثاني داخلي مع الأردنيين من أصول فلسطينية، وهو ما جعله يهدّد قائلاً “إن أي تهجير لأبناء الضفة سيُعتبر بمثابة إعلان حرب”.
لكن نتنياهو الذي يحمل مشروع “تغيير وجه المنطقة” والذي يضبط ساعته على التطورات الإنتخابية الأميركية، سيندفع في مغامرته المجنونة متحيناً الظروف المناسبة. وهو يتطلّع الى حزام أمني آمن (تتقاطع معه هنا واشنطن) في جنوب لبنان والجولان. وربما هذا ما حدا بوليد جنبلاط الى اعتبار أنّ الحرب طويلة وأنّ على لبنان إنجاز التسوية.
واستطراداً، يسعى نتنياهو لإرساء واقع ميداني جديد يدفع في اتجاه تحقيق مشروعه لاحقاً، والقائم على تثبيت يهودية الدولة، والذي سيعني لاحقاً إعادة تعديل الخريطة الجغرافية للمنطقة المحيطة من خلال نشوء كيانات طائفية.
ويشكّل الواقع الناتج من الحروب والصراعات في سوريا ولبنان عامل إغراء لاندفاع نتنياهو في مشروعه. وفي نظرة سريعة، في سوريا توجد أربع حكومات في أربع مناطق مختلفة. الأولى هي الحكومة الشرعية في دمشق، والثانية هي حكومة الإدارة الذاتية لـ(قسد) في منطقة شرق الفرات، والثالثة هي حكومة هيئة تحرير الشام (النصرة) في إدلب وجوارها، والرابعة تُعرف بحكومة سوريا الموقتة من ريف حلب وحتى شرق نهر الفرات. وإذا أضفنا الى هذه الخريطة المفككة الإحتجاجات القائمة في السويداء جنوباً، يصبح المشهد أكثر وضوحاً. ويلفت هنا السكوت الروسي المستمر حيال الغارات الإسرائيلية المتواصلة، والتي كانت عنيفة في نسختها الأخيرة، وطاولت منشآت لأبحاث عسكرية وسط سوريا. ولا شك في أنّ لهذا الصمت الروسي مغزاه العميق.
وبالانتقال الى الجبهة اللبنانية، فإنّ رفع مستوى الحماوة العسكرية يترافق مع ارتفاع منسوب التهديدات من خلال التركيز على الحضور العسكري لـ”حزب الله”. وإذا كانت واشنطن تتفق مع حكومة نتنياهو على ضرورة إيجاد حل للمنطقة الحدودية، إلّا أنّها تعارض بقوة أي عمل عسكري إسرائيلي بري خشية الدخول في نفق غير محسوب، وأن يؤدي ذلك الى تقويض ما تبقّى من الدولة اللبنانية. كما أنّ واشنطن تدرك جيداً أنّ مشروع اليمين الإسرائيلي يلحظ في خلفيته “حلم” السيطرة المباشرة على منطقة جنوب الليطاني لأسباب أمنية و”مائية”.
لكن الضغط الذي مارسته إدارة بايدن لإنجاز تسوية في جنوب لبنان اصطدم بعوائق عدة يبقى أهمها الربط بموضوع وقف النار في غزة.
وقد لا تقف التعقيدات هنا فقط. ففي المرحلة الأخيرة أظهر مرشد الثورة الإيرانية مرونة لافتة. مرّة عبر تأمين وصول رئيس إصلاحي. ومرّة ثانية عبر تأييده مفاوضة “العدو”. ومرّة ثالثة “تأجيل” الردّ على اغتيال هنية الى أمد غير محدّد. ومرّة رابعة بإعلانه بلسان رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان حاجة إيران الى استثمارات تقارب المئة مليار دولار. ومرّة خامسة عندما أفتى بالتراجع التكتيكي. ومرّة سادسة حين أجاز للرئيس الإيراني بزيارة كردستان العراقية في أول زيارة خارجية له الى العراق، والتي فُسّرت بأنّها رسالة إيجابية تجاه واشنطن.
كل هذه قد تكون مؤشرات حول وجود مفاوضات ناشطة وغامضة ولِمَ لا مثمرة في الكواليس. لكن ثمة مخاطر معاكسة لا تقلّ أهمية.
فقبيل بدء زيارة بزشكيان إلى العراق استُهدف معسكر “ڤيكتوري” الأميركي قرب المطار بصواريخ “مجهولة”. وفُسّر الإستهداف بأنّه استدراج لردّ أميركي على تنظيمات موالية لإيران، ما سيصيب زيارة بزشكيان بنيران أميركية. لكن الردّ لم يحصل. وتمحورت الشبهة ما بين رافض للتقارب الأميركي ـ الإيراني على مستوى خارجي مثل إسرائيل، أو على مستوى عراقي داخلي متشدّد يعارض كل هذا المسار الحاصل.
وقبل ذلك كانت واشنطن قد أعلنت عن تزويد طهران لموسكو بصواريخ باليستية قصيرة المدى ستستخدمها بلا شك في حربها في أوكرانيا. ووضعت واشنطن هذه الخطوة بالرسالة السلبية ضدّها. لكن التفسيرات تراوحت بين اعتبارها حركة دفعت باتجاهها روسيا بهدف وضع العوائق أمام تحسين إيران علاقتها مع أوروبا، وذلك عبر إغراء طهران بمعدات تكنولوجية ومواد نووية كانت قد طلبتها سابقاً. وهذا ما حمل بريطانيا وفرنسا وألمانيا على الإستياء، ما دفعها الى تقييد الرحلات الجوية المباشرة بين أوروبا وإيران.
وجاء تفسير آخر يقول إنّ تزويد إيران لروسيا السلاح هو قرار يعود للحرس الثوري، والرئيس الإيراني ليس مسؤولاً عن السياستين الخارجية والدفاعية لإيران.
ووفق ما سبق، يمكن الإستنتاج بأنّ “شياطين التفاصيل” في الشرق الأوسط كثر وقادرون على التقاطع وضرب التفاهمات التي يمكن نسجها.
بعد نكبة العام 1948 تمّ تركيز المعادلة في المنطقة وفق ركيزتي النفط وإسرائيل. وعلى إثر ذلك ولد الكفاح المسلح الفلسطيني، والذي تمّ توظيفه بعيداً من فلسطين في ساحات التناحر العربي. فدفع الأردن ثمنه بداية، ثم سقط لبنان في جحيمه، ولاحقاً طاول الكويت. أما اليوم وبعد بركان غزة لا بدّ من توقّع تفعيل الحركة الأمنية السرّية للحركات الإسلامية في الساحات العربية والتي ستتظلل براية “حماس”، والتي ستعمل المحاور القائمة في المنطقة على استثمارها وتوظيفها، كل في مشروعها وسياستها الإقليمية.
وباب الخطر أن اليمين الإسرائيلي يراهن على حماوة تدفع للذهاب إلى دويلات طائفية.
جوني منيّر – الجمهورية