الجمعة, نوفمبر 22
Banner

صراع الحكومة والعسكريين المتقاعدين: الاصطدام يعني الدمّ

عكَّرَت تحرّكات العسكريين المتقاعدين مزاج السلطة السياسية التي كانت قد استكانَت إلى هدوء الشارع بعد مرحلة 17 تشرين الأول 2019. لكن هؤلاء لا يرفعون اليوم شعارات 17 تشرين، بل أبسط منها. إذ يريدون العدالة في توزيع مقوّمات الصمود في مواجهة الأزمة الراهنة. وفي المقابل، تحافظ السلطة على التخوين كآلية لمواجهة التحرّكات المطلبية من دون تقديم أي حلول صحيحة. وهي بذلك، تحقن أصحاب المطالب بمزيد من أسباب الانفجار الذي واجهته السلطة سابقاً عبر وضع الناس في مواجهة بعضها، سواء بصيغة شارع مقابل شارع أو متقاعد في مواجهة مَن هم بالخدمة الفعلية، مدنيين كانوا أم عسكريين. فهل تنتهي القضية بدمّ أم بحلّ منصف؟

لغتان مختلفتان

بدأت الحكومة دراسة مشروع موازنة العام 2025 بمحاولة صمَّ آذانها عن صوت المتقاعدين في الشارع، مدنيين وعسكريين. وبدل التسليم بضرورة إيجاد اتفاق ملائم، اجتمعت الحكومة “خلسة” بعد ظهر أمس الأربعاء 11 أيلول، في محاولة للإلتفاف على تحرّكات المتقاعدين، وخصوصاً العسكريين الذين آثروا التصعيد بإقفال الطرقات ومنع انعقاد جلسة الثلاثاء، كما سارعوا للنزول إلى الشارع فور انكشاف انعقاد جلسة بعد ظهر الأربعاء، للتأكيد على جدية تحرّكاتهم.

الاصطدام بين الحكومة والمتقاعدين يعود لتحدُّث كِلا الطرفين بلغة مختلفة. الحكومة تريد الاستمرار بسياسة الزيادات غير المنصفة وتُمنِّن المتقاعدين بها، فيما هؤلاء يعلنون أن الزيادات المنتظرة ليست طموحهم الفعلي. فيقول رئيس الحكومة نجيب ميقاتي “إننا سنتخذ خطوات وقرارات أساسية تتعلق بحقوق العاملين في القطاع العام، والزيادات المطروحة للمدنيين والعسكريين الحاليين والمتقاعدين موجودة ضمن مشروع الموازنة، مع العلم اننا في صدد اتخاذ اجراءات مؤقتة تقضي بإعطاء العاملين في القطاع العام مساعدة اجتماعية إلى حين إقرار الموازنة في مجلس النواب، وهذا الإجراء سبق أن اعتمدناه وتم تطبيقه على العسكريين في الخدمة وعلى المتقاعدين أيضاً”. ولأنه سبقَ للحكومة تنفيذ هذه الخطوة، يرفضها المتقاعدون اليوم لعجزها عن تحقيق تطلّعاتهم منذ بداية الأزمة الاقتصادية. فرابطة موظفي الإدارة العامة تطالب بـ”تصحيح حقيقي للرواتب والأجور وإدخال كل الزيادات في صلب الراتب وصولاً الى إعادة قيمة هذه الرواتب إلى ما كانت عليه قبل الأزمة الاقتصادية. إلغاء كل بِدَع الحوافز والمساعدات على تسمياتها (إنتاجية، مثابرة…) وإلغاء التمييز بين الإدارات والموظفين. إعادة احتساب الرواتب التقاعدية والتمسك بـ85 بالمئة من أصل الراتب مع العمل لإعادتها إلى 100 بالمئة كما كانت سابقاً وإعادة التقديمات الاجتماعية والاستشفاء والطبابة كما كانت قبل الأزمة الاقتصادية”.

وبالتوازي، أكّد أمين سرّ الهيئة الوطنية للمحاربين القدامى، العسكري المتقاعد عماد عواضة، أن العسكريون يريدون “سياسة عادلة بين كل القطاعات. فلا يمكن إعطاء العسكريين المتقاعدين فتاتاً، فنحن لنا حقّ عند الدولة التي سُرِقَت ونُهِبَت”. وبرأي عواضة، إن ما تقوم به الحكومة اليوم لا يرقَ لمستوى معالجة أزمة الرواتب “فبعض الموظفين في الخدمة الفعلية في بعض الإدارات تصل رواتبهم إلى نحو 1000 دولار شهرياً، في حين أن العسكري المتقاعد يقبض نحو 200 دولار ويطرحون اليوم علينا زيادة 50 دولاراً”. وقال عواضة في حديث لـ”المدن” أنه وفق هذه السياسة “تبحث السلطة عن ضرب المؤسسة العسكرية، وتعطي صورة للعسكري في الخدمة الفعلية عمّا سيكون عليه مستقبله حين يتقاعد”. وعلى أقلّ تقدير، ينتظر العسكريون المتقاعدون بحسب عواضة “إعطاء 40 بالمئة ممّا كانت عليه الرواتب قبل الأزمة، أو إعطاء 85 بالمئة ممّا يأخذه اليوم العسكريون والموظّفون في الخدمة الفعلية”.

وعن الطريقة التي جرى فيها عقد جلسة الحكومة، علَّق عواضة بالقول إنه “كنّا على علم بتطيير الجلسة الأولى ولدينا معلومات بوجود لعبة لإنهاك العسكريين المتقاعدين”. وأسِفَ عواضة إلى كَون الطريقة التي تتعامل بها السلطة مع مطالب العسكريين المتقاعدين، تعني أن السلطة “تريد تخريب البلد”. ولفت النظر إلى وجود “مخطّط لحصول مواجهة بين العسكريين المتقاعدين والعسكريين في الخدمة أمام مبنى الحكومة ليصير هناك دم في الشارع، ولذلك كانت غايتنا دائماً هي عدم الاقتراب من مجلس الوزراء والاصطدام مع العسكريين، لكن الخيار يبقى دائماً لقطع الشارع ومنع الجلسات”.

بين الاقتصاد والسياسة

اختلاف اللغة بين الحكومة والمتقاعدين يعكس جوهر الأزمة التي تنقسم بين مستوى ظاهري وآخر باطني، ويدل هذا الانقسام على البُعد الاقتصادي الاجتماعي للأزمة وبُعدها السياسي. ووفق ما يراه الخبير الاقتصادي باتريك مارديني، خلال حديث لـ”المدن”، فإن “البُعد الاقتصادي الاجتماعي يتمثَّل بتدنّي رواتب الموظفين والمتقاعدين، والتي بالكاد تؤمّن الحد الأدنى من مقومات الحياة، سيّما أن المتقاعدين عملوا طوال حياتهم ليتقاعدوا بكرامة، واليوم مع الأزمة الاقتصادية، لم تعد الدولة قادرة على دفع ما يطمحون للحصول إليه. وبالتالي بتنا أمام معضلة حقيقية تتلخّص في أن الموظّفين يتوقّعون الحصول على رواتب معيّنة فيما الدولة عاجزة عن دفع تلك الرواتب. أما في العمق، فهناك البُعد السياسي الذي يتمثّل بالتوظيف السياسي العشوائي المرعب داخل القطاع العام، والذي يفوق بكثير حاجة القطاع”.

وهذا التناقض يدلّ بحسب مارديني على أنه “لا يمكن إنصاف الموظفين والمتقاعدين بهذا الشكل الذي يُدار به القطاع العام”. وبالتالي، فإن الحل يبدأ بـ”إعادة هيكلة القطاع العام على غرار الخطوة التي أخذها القطاع الخاص مع بداية الأزمة في العام 2019″. ومن خلال إعادة الهيكلة يتخلّص القطاع العام من “الموظفين غير المنتجين، فيُتاح له بذلك زيادة الرواتب بصورة تعكس الإنتاجية الفعلية، وتستطيع الدولة بالتالي تحمُّل كلفة زيادة الرواتب بعد تخفيض عدد الموظفين”. أما الإبقاء على الزيادات بصيغتها الحالية وتحت مسمّى تحفيز الإنتاجية فهو بنظر مارديني “تحفيز على عدم الإنتاجية، لأن الموظّف غير المنتِج يقبض كالموظّف المنتج، فيرى الثاني أنه يمكنه الحصول على المبلغ ذاته من دون عمل أو تعب”.

لا تنظر الحكومة إلى حلّ مشكلة الرواتب من منظور الإنتاجية وإعادة هيكلة القطاع العام، وهذا ما يدعم استمرار الأزمة في ظل عدم نيّة السلطة السياسية إجراء الإصلاحات الحقيقية. ولذلك، فإن التحرّكات في الشارع ستتواصل، وستستمر معها “شيطنة” تلك التحرّكات طالما أنها تواجه الحكومة بشيء من العنف الذي وصفه ميقاتي بأنه “مشبوه”.

خضر حسان – المدن

Leave A Reply