ملخص
اليوم، على رغم أن ثمة زيادة في الوعي حول الموضوع، لا يزال الحديث عنه من المحرمات بالنسبة إلى كثيرين، فتفضل نسبة كبيرة من المصابين استبعاد احتمال الإصابة به وتجنب إجراء الفحص حتى لا ترافقهم النظرة المجتمعية السلبية طوال حياتهم.
لم يعتبر لبنان يوماً من الدول التي ترتفع فيها معدلات الإصابة بـ”الإيدز”، إذ كان من الممكن دائماً السيطرة على المرض، خصوصاً أن العلاج الخاص به توفره الدولة مجاناً، ومن جهة أخرى قد تكون وصمة العار التي تحيط بالمريض بسبب نظرة المجتمع وراء انخفاض الأرقام المسجلة.
اليوم، على رغم أن ثمة زيادة في الوعي حول هذا المرض، لا يزال الحديث عنه من المحرمات بالنسبة إلى كثيرين، فتفضل نسبة كبيرة من الناس استبعاد احتمال الإصابة به وتجنب إجراء الفحص حتى لا ترافقهم النظرة المجتمعية السلبية طوال حياتهم، إن تأكدت إصابتهم.
في لبنان، صدرت أخيراً تقارير عدة تشير إلى ارتفاع معدلات الإصابة بـ”الإيدز”، وربطت هذه الزيادة بالفوضى الحاصلة في قطاع صالونات رسم الوشم كمسبب للمرض في حال عدم توافر معايير السلامة المطلوبة، مما أثار حالاً من القلق لكثيرين في البلاد بما أنه يسهل التعرض لعامل الخطر هذا.
لكن ما دقة الحديث فعلاً عن زيادة بفيروس نقص المناعة البشرية في لبنان؟ وماذا يقول الأطباء المعنيون؟
أدنى المستويات
يعتبر لبنان من الدول التي تسجل فيها أدنى مستويات انتشار فيروس نقص المناعة، فحتى عام 2022 سجلت 3018 حالة من المتعايشين مع المرض منذ تاريخ تسجيل الإصابة الأولى بالمرض عام 1984، بحسب الأرقام الرسمية لـ”البرنامج الوطني لمكافحة الإيدز” التابع لوزارة الصحة العامة، وفي 2022 أشارت الأرقام الرسمية إلى تسجيل 223 إصابة جديدة بالفيروس.
ولا ينفي الطبيب في الأمراض الجرثومية بيار أبو حنا أن “ثمة ارتفاعاً في معدلات الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسب خلال الأعوام الأخيرة، لكن هذه الزيادة قد لا ترتبط بوجود مسببات معينة أدت إليها. ففي لبنان لا تتسم الإحصاءات التي تجرى في مجال الصحة حول معدلات انتشار الأمراض بالدقة، لأنها لا تستبعد فئة اللاجئين ولا تعطي صورة واضحة عن الوضع الفعلي في المجتمع اللبناني. فالأرقام التي تدل على معدل الإصابات بـ’الإيدز‘ تضم اللاجئين ومختلف الجنسيات الموجودة على الأراضي اللبنانية، مما يجعلها تفتقد إلى الدقة في الصورة التي تعطيها عن معدلات انتشار المرض. بالتالي لا يمكن الجزم بأن الزيادة في معدلات الإصابة تعكس زيادة انتشار بين المواطنين اللبنانيين”.
“ورد في تقارير صحافية أن ثمة ارتفاعاً مقلقاً في معدلات الإصابة بـ’الإيدز‘ في لبنان، وقد فتح النقاش بصورة واسعة حول المرض”، هذا ما أكدته مديرة البرنامج الوطني لمكافحة السل هيام يعقوب، وأشارت إلى أنه لم تسجل زيادة لافتة في معدلات الإصابة في لبنان منذ تاريخ ظهور الإصابة الأولى قبل 40 عاماً، حتى إن الأرقام التي تسجل سنوياً هي دون تلك التقديرات السنوية التي تضعها منظمة الصحة العالمية في تقريرها بمعدل 300 حالة سنوياً. ولم تبلغ الأرقام يوماً هذا الرقم، فهي لا تتخطى الـ250 أو 260 إصابة سنوياً. أما الارتفاع الذي سجّل في مرحلة معينة خلال الأعوام الأخيرة، فيرتبط حكماً بزيادة أعداد اللاجئين.
وتشير يعقوب إلى أنه “ما من أرقام خيالية كتلك التي يشار إليها، بل على العكس يصنف لبنان من بين الدول التي تنخفض فيها معدلات انتشار المرض. كما ظهر أن الارتفاع يسجّل خصوصاً في مجتمعات معينة يتم التركيز عليها في حملات التوعية”.
الوشم ليس سبباً
من جهة أخرى، ربطت التقارير بين ارتفاع معدلات الإصابة بـ”الإيدز” والفلتان الحاصل في مجال رسم الوشم وغياب أية رقابة أو ضوابط بهذا الخصوص. واعتُبر ذلك سبباً رئيساً وراء ارتفاع معدلات الإصابة بالمرض والأرقام المقلقة التي تسجل خلال الأعوام الأخيرة، فيما لا تسجل أرقام مرتفعة في معدلات العلاقات الجنسية غير المحمية في لبنان بعكس تلك المسجلة في العالم، علماً أن الأرقام الرسمية تدل على أن نسبة 90 في المئة من الحالات ناتجة من علاقات غير محمية أو علاقات بين مثليين، أما النسبة الباقية فلأسباب غير معروفة.
في المقابل، لم تسجّل أية حالات منذ أعوام عدة ناتجة من انتقال الفيروس عبر الدم أو من حامل لجنينها. وتوضح يعقوب أنه لم يتم التبليغ يوماً عن إصابة بـ”الإيدز” بسبب الوشم، حتى إن هذا الاحتمال بسيط على صعيد عام بحيث أنه لا يُذكر. وصحيح أنه ما من مجال للشك حيال التفلت الحاصل في مجال صالونات رسم الـ”تاتو”، ومنها كثير لا يعتمد أياً من معايير السلامة المطلوبة، وهذه الصالونات منتشرة في كل مكان، وفي الأسواق الشعبية حيث تغيب الرقابة تماماً.
لكن أبو حنا يؤكد أن فيروس “الإيدز” يعتبر ضعيفاً ولا يعيش طويلاً خارج الجسم، ومن الصعب جداً أن ينتقل من خلال الوشم، ويستبعد احتمال التقاط العدوى بهذه الطريقة. فقد تزيد احتمالات الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي “بي” و”سي” لدى رسم الوشم، أما “الإيدز” فلا. لكن في كل الحالات من المفترض للصالونات استخدام الإبرة لرسم الـ”تاتو” مرة واحدة فقط، وتبديلها مع كل شخص لتنعدم احتمالية انتقال الفيروس عبرها.
أعراض لا تظهر أولاً
تعتبر المشكلة الأساسية خلال فترة حضانة فيروس “الإيدز”، إذ لا تظهر أعراض واضحة لدى المصاب تسمح باكتشاف إصابته بالمرض، وطوال أشهر يمكن ألا يلاحظ المريض أية أعراض لهذا الفيروس الذي يضرب الخلايا المناعية، مسبباً ضعفاً فيها خلال سنوات، علماً أن الفيروس ينتقل عبر العلاقات الجنسية غير المحمية أو عبر تناقل الإبر المستخدمة في تعاطي المخدرات أو في أية استخدامات أخرى، إضافة إلى احتمال انتقال الفيروس من حامل مصابة إلى جنينها في حال عدم تلقيها العلاج الوقائي.
وتظهر أعراض معينة خلال الأسابيع الأولى من التقاط العدوى كارتفاع الحرارة ووجع الحنجرة والإسهال، وقد لا يربط المريض بين الإصابة بالفيروس وظهور هذه الأعراض لأنها تزول بعدها ولا تظهر لديه علامات واضحة. وتعتبر هذه الأعراض من تلك التي تتشابه مع أمراض أخرى شائعة، مما يزيد من صعوبة تشخيص المرض في حال لم يبلّغ المريض الطبيب المعالج في شأن احتمال إصابته بـ”الإيدز” لأي سبب كان، مما يحصل في كثير من الأحيان بسبب نظرة المجتمع إلى المصابين بالمرض، فيؤخر التشخيص حتى مراحل متقدمة.
في مثل هذه الحالات، من الممكن أن يبقى الفيروس خاملاً في الجسم طوال أعوام إلى أن تظهر أعراض أكثر خطراً في مراحل متقدمة، وفق ما يوضح أبو حنا. ففي مرحلة متقدمة يتعرض المصاب كثيراً للالتهابات بأنواعها نتيجة انخفاض مستويات المناعة إلى أدنى معدلاتها، وهو يلتقط بسهولة الأمراض الانتهازية من التهابات رئوية وحساسية جلدية وأورام معينة في الدماغ وداء المقوسات وإسهالات وغيرها من الأمراض، ويمكن أن تؤدي إلى مضاعفات وقد تصل الأمور إلى درجة حصول وفاة.
قد يتأخر التشخيص في حال عدم إدراك المصاب والطبيب للإصابة، وفق أبي حنا، لكن لدى التشخيص يتوافر العلاج الذي يسمح للمصاب بعيش حياة طبيعية عبر السيطرة على المرض. ويقضي العلاج الذي تتوافر اختيارات عدة منه وإن كانت تلك المتوافرة في لبنان محدودة، بتناول حبة دواء يومياً. وبعد شهرين أو ثلاثة من اتباع العلاج يمكن السيطرة على الفيروس، وتنخفض معدلاته في الدم إلى أدنى المستويات، ولا يعود ينتقل بالعدوى.
الحديث عن “الإيدز”
لكن أبي حنا يحذر من عدم التزام المريض بتناول الدواء يومياً، فقد يولد ذلك مناعة للفيروس في الجسم ولا يعود فاعلاً في مواجهته. عندها تكون هناك ضرورة لتغيير الدواء بهدف السيطرة على المرض وتجنب مضاعفاته وانتقاله إلى الآخرين، مع الإشارة إلى أن وزارة الصحة العامة تؤمن في لبنان دواء “الإيدز” مجاناً، وهو عبارة عن ثلاثة أدوية في حبة دواء واحدة للسيطرة على الفيروس في الجسم حتى يظهر انخفاض في الـPCR Virus Load إلى مستويات لا يعود فيها قابلاً للانتقال إلى الآخرين. ومن الممكن للمصاب عندها أن يعيش حياة طبيعية ويتزوج وينجب ولا تنتقل العدوى إلى أحد. وعلى رغم توافر العلاج بالحقن أيضاً التي تُجرى بمعدل إبرة كل شهرين، تبقى الحبوب هي الأكثر فاعلية، لا سيما أن الحقن غير متوافرة في لبنان.
وفي حين لا يزال الحديث العلني عن المرض قليلاً في مجتمعنا، يساعد توافر العلاج مجاناً ووجود برنامج الوقاية من المرض والحملات التي تقيمها الجمعيات والمنظمات المعنية لنشر الوعي في المجتمع وتسريع عملية التشخيص والكشف عن المرض في مراحل مبكرة، على السيطرة عليه بمزيد من الفاعلية، مع الإشارة إلى أن منظمة الصحة العالمية شددت على أن السيطرة على المرض تستدعي حكماً أن تدرك نسبة 95 في المئة من المصابين إصابتهم به بما يسمح بتلقيهم العلاج ومنع انتقال العدوى إلى الآخرين، وهذا ما يحصل عندما لا يعود الفيروس واضحاً في فحص الدم، فتكون هناك سيطرة فعلية على المرض.
قد تكون هناك حاجة إلى مزيد من الوعي في مجتمعاتنا لبلوغ هذه المرحلة، خصوصاً أنه من الأمراض التي لا يتم الحديث عنها علناً، ويستدعي ذلك التشديد أيضاً على من يعتبر عرضة للخطر الفحص دورياً ولو لمرة واحدة في السنة.
كارين اليان ضاهر – اندبندنت