السيناريوهات الحربيّة التي يستولدها المستويان السياسي والعسكري في اسرائيل، توحي وكأنّ الحرب على لبنان واقعة غداً. لكن هل ستقع هذه الحرب فعلاً؟ وماذا يمكن ان ينتج منها فيما لو وقعت؟
المناخ حربي، وسقف التهديدات هو الأعلى منذ بدء المواجهات قبل نحو سنة، ونتنياهو قال إنّه يريد أن يحدث تغييراً جوهرياً في الوضع الأمني لإعادة سكان مستوطنات الشمال. ولكنْ رغم ذلك، فإنّ اشتعال الحرب وعدمه ما زالا على بُعد متساوٍ حتى الآن، ذلك أنّ أفق الميدان ضبابي، يُصعّب تقدير أو تحديد وجهة الرياح الحربية. حيث تتراكم فيه جملة وقائع:
أولها، التحذيرات المتتالية من مستويات سياسية وعسكرية واعلامية في اسرائيل، من أنّ الذهاب إلى حرب مع لبنان يعني كارثة على إسرائيل، لم يجف حبرها بعد. معطوف عليها ما اشارت اليه القناة 12 العبريّة بالأمس، بأنّ العملية العسكرية في لبنان ستكلّف اسرائيل ثمناً باهظاً. واللافت كان تقدير صحيفة «هآرتس» في وقت سابق بأنّ حرباً على لبنان ستؤدي إلى هزيمة كاملة لإسرائيل. يُضاف اليه ما نقلته صحيفة «يديعوت احرونوت» من مخاوف أبداها مسؤولون في الجيش الاسرائيلي من انّ الحرب ستشعل المنطقة بأكملها.
ثانيها، موقف واشنطن التي تغلّب الحل السياسي، خصوصاً على جبهة لبنان، التي تختزن شرارات حرب تخشى تمدّدها إلى كل ساحات المنطقة. وضمن هذا السياق المعاكس للتوجّه الحربي لنتنياهو وحكومته المتطرّفة، تأتي مسارعة إدارة الرئيس جو بايدن الى إيفاد آموس هوكشتاين الى اسرائيل ناقلاً رسالة اميركية إعتراضية على حرب لا تعيد سكان المستوطنات، وتعرّض إسرائيل للخطر، وكذلك إلى توجيه تحذير استثنائي عبر وزير الدفاع الاميركي لويد اوستن، الذي أبلغ نظيره الاسرائيلي يوآف غالانت بأنّ الحرب على لبنان ستكون لها عواقب مدمّرة على اسرائيل. وليس بعيداً أن يكون سحب حاملة الطائرات «تيودور روزفلت» قبل ايام قليلة رسالة اعتراض اميركية على الحرب من عرض البحر».
ثالثها، الصاروخ اليمني الفرط صوتي، الذي سبح 2040 كيلومتراً بحرّية تامة في الفضاء ووصل إلى تل ابيب في أقل من ربع ساعة، حيث أنّ إيصاله الى هدفه متجاوزاً كل القبب الحديدية بكل مسمّياتها الاسرائيلية، لا يبدو معزولاً عن الاستعدادات الاسرائيلية للحرب على لبنان، وأُريد منه نقل رسالة مدروسة توقيتاً ومضموناً، الى اسرائيل، ليس من اليمن وحدها، بل من المحور الذي تنتمي اليه، مفادها: «هذا هو النموذج الذي ينتظرها إذا ما أشعلت الحرب». (إشارة هنا الى أنّ هذا التطوّر الفرط صوتي دفع مرجعاً كبيراً إلى وصفه بـ«الاختراق العظيم، إذ إنّه بـ11 دقيقة وصل من اليمن إلى تل ابيب مخترقاً كل دفاعات العدو، فكم ثانية سيستلزم وصول مثله إلى أيّ مكان في اسرائيل إن أُطلق من لبنان؟ اعتقد انّ نتنياهو وحكومته سيلجأون الى التفكير عشرة آلاف مرّة قبل العدوان على لبنان».
رابعها، سقف التهديدات، يحتمل الجدّية في ظاهرها، كما يحتمل أن تكون في داخلها مساحة تهويل على غرار مسلسل التهديدات المستمر منذ سنوات، والتي سبقت او صاحبت سلسلة مناورات عسكرية حاكت عدواناً على لبنان وحرباً على «حزب الله».
خامسها، منذ بداية المواجهات قبل نحو سنة، تراكمت وقائع ومحطّات عديدة تلاحقت على جبهة لبنان، كان يمكن لأيّ منها أن تشكّل ذريعة لإشعال حرب، ومع ذلك ظل نتنياهو مستبعداً هذا الخيار برغم الاصوات الداعية إلى الحرب، سواء من داخل حزبه «الليكود» وائتلافه الحكومي، او من احزاب المعارضة. ومنها على سبيل المثال، شلّ الشمال وتفريغ كل المستوطنات وتعطيل الحياة فيها، وشلّ الاقتصاد والقطاعات الصناعية والسياحية فيها، واستهداف القواعد العسكرية الحساسة بشكل متواصل، مثل «ميرون» وقيادة الجبهة الشمالية، وصولاً الى 25 آب الماضي، وما وصف بالردّ النوعي لـ«حزب الله» على اغتيال أحد كبار قيادييه فؤاد شكر، واستهداف غليلوت (قاعدة الاستخبارات الاسرائيلية التابعة للوحدة 8200) قرب تل ابيب، وقاعدة عين شيمر للدفاع الجوي الصاروخي.
والسؤال هنا: لماذا رفع نتنياهو نبرة الحرب الآن؟ واستطراداً، أي حرب يريد وما هي خياراته الحربية؟ هل يذهب إلى مواجهة كبرى وواسعة؟ هل يذهب إلى مواجهة محدودة ركيزتها سلاح الجو بقصف غير متخيّل يوسع فيه مساحة الدمار من الجنوب إلى العمق اللبناني؟ هل يريد اجتياحاً برياً حتى الليطاني لإبعاد «حزب الله» إلى ما بعده، وإعادة إنشاء «حزام امني» على غرار ما كان سائداً بعد اجتياح العام 1982؟ وقبل كل ذلك، كم هي نسبة نجاح او فشل ايّ من هذه الخيارات الحربية؟ وهل يمكن له ان يشن حرباً مهما كان حجمها، بمعزل عن الاميركيين؟ وبمعنى اوضح هل يسمح له الاميركيون بذلك؟
قد يُقال إنّ نتنياهو قد لا يجد حرجاً في تجاوز التحذيرات الصادرة من الداخل الاسرائيلي للقيام بمغامرة حربية، ولكنه امامه جملة محاذير:
اولاً، اولوية الاميركيين صارت إنهاء حرب غزة وبلوغ صفقة تبادل، وبالتالي لا يغطون حرباً من شأنها الإضرار بمصلحة اسرائيل، وقالوا صراحة انّ في قرار الحرب مجازفة يمكن ان تحرّك كلّ ساحات المواجهة بوجه اسرائيل.
ثانياً، صحيفة «الواشنطن بوست» الاميركية لخّصت وضع الجيش الاسرائيلي بعنوان عريض في تموز الماضي بأنّه «منهك حتى النخاع». وتتفق بذلك مع مقاربات مستويات إسرائيلية من سياسيين وعسكريين ومحللين، ترى أنّ الجيش الاسرائيلي أُنهك في غزة، ويعاني نقصاً في العديد والعتاد، ويحتاج إلى وقت لكي يعيد تنظيم نفسه. فكيف لجيش بهذا الوضع ان يدخل وينتصر في تجربة حربية جديدة على جبهة لبنان، أصعب عليه عشرات المرّات من غزة؟
ثالثاً، المجتمع الدولي، متناغم مع الاميركيين، وفي المقدمة مع الفرنسيين الذين بعثوا في الساعات الأخيرة رسالة واضحة إلى الإسرائيليين عبر السفير الفرنسي في إسرائيل فريدريك جورنيس بـ«أنّ «حزب الله» ليس خائفاً من حرب شاملة مع إسرائيل، ولن يستسلم في حال شنها».
رابعاً، «حزب الله»، باعتراف الاسرائيليين انفسهم والإعلام العالمي، عدو شرس يتمتع بقدرة وخبرة قتالية احترافية، وقدراته كمّاً ونوعاً، أكبر بأضعاف مضاعفة ممّا تمتلكه حركة «حماس»، ومع ذلك لم يستطع الجيش الإسرائيلي حسم المعركة وتحقيق أيّ من الأهداف التي حدّدها نتنياهو بالقضاء على «حماس» وإعادة الاسرى؟ ويقول انّه يأخذ التهديدات على مجمل الجدّ، وانّه اعدّ لكل خيار حربي رداً يناسبه ويوازيه وربما يفوقه، فإنّ وسعت اسرائيل الحرب بالنيران سيوسع الحزب، والسيد حسن نصرالله قال للإسرائيليين «بتوسعوا بنوسع» «بتعلّو بنعلّي»، وبدل ان تعيدوا سكان الشمال تحضّروا لاستقبال مليون نازح اضافي من المستوطنات والمدن الاسرائيلية. وإن اختار العملية البرية فقد قال الحزب «انّ الشباب ينتظرون هذه اللحظة للانتقال من الدفاع الى الهجوم».
الأجوبة على ما تقدّم من اسئلة، لا تأتي من أعداء اسرائيل، بل من داخلها ومن أقرب حلفائها وأصدقائها، حيث تكال له الاتهامات بأنّ جنوحه الى اشعال حرب جديدة على جبهة لبنان محاولة لتطويل عمره السياسي وهروب من المحاسبة التي قد تُدخله السجن، وهروب من صفقة التبادل التي قد تجهز على ائتلافه الحكومي، وهروب من الفشل في تحقيق هدفه بالإجهاز على «حماس»، واستعادة الاسرى. وانّه بجنوحه الى الحرب الآن يواصل محاكاته لوصول دونالد ترامب الى البيت الابيض التي بدأها في التفشيل المتعمّد لمبادرة الرئيس جو بايدن لبلوغ صفقة تبادل تنهي الحرب، ويكمّلها في هذا الوقت، برفع الوضع في المنطقة الى اقصى درجات التوتر والتصعيد خلال الفترة الحرجة السّابقة لانتخابات الرئاسة الأميركية في الخامس من تشرين الثاني المقبل، للإبراز امام الناخب الاميركي عجز ادارة بايدن التي تشكّل كامالا هاريس المنافسة لترامب جزءاً منها، وفشلها في وقف الحرب واحتواء التصعيد.
نبيل هيثم – الجمهورية