في داخل غرف العمليات، وفي أروقة الأقسام على اختلافها، يتوزّع جرحى القصف الإسرائيلي في العناية الفائقة وغرف الإنعاش والطوارىء وغيرها. تحاول مستشفيات الجنوب كما البقاع، التي يلقى على كاهلها الثقل الأكبر من الإصابات بسبب القصف المتواصل، الصمود ومواصلة معركتها على الأرض بإنقاذ الجرحى والمصابين.
حفلة الجنون التي تقودها إسرائيل منذ أكثر من أسبوع لم تنل من عزيمة الطواقم الطبية والقطاع الصحي الذي ما زال واقفاً بإمكانياته وتعبه لمتابعة عمله. إرهاق وتعب وإصرار، هكذا يمكن اختصار مشهد مستشفيات المواجهة التي تسعى إلى التعامل مع كلّ الحالات الصحيّة، لا سيّما بعد أن وصلت إلى قدرتها الاستيعابية القصوى.
تكرار مشهديّة غزّة؟
في متابعة لتداعيات تلك الحوادث، بدا لافتاً ذلك العدوان الجويّ الذي نفّذه الجيش الإسرائيلي مستهدفاً محيط مستشفى نبيه بري الحكومي في النبطية، على مسافة أقلّ من 100 متر من موقف سيّارات فيه، حيث تسبّبت الغارة بأضرار كبيرة في أقسام المستشفى، وبحالة هلع وتوتر بين المرضى والطاقَمين الطبي والتمريضي فيها.
والقلق الأكبر يتمثل بتحويل المستشفيات إلى ساحات معركة كما حصل في غزة، وهنا الكارثة!
نجحت المستشفيات حتى الساعة في تلقّف تداعيات الحرب وفق الخطة الصحيّة، لكن ثمة ما يتخوّف منه نقيب المستشفيات الخاصة سليمان هارون في حديثه لـ”النهار”، وهو أن تطول الحرب لأسابيع، وأن تكون الهجمات متواصلة كما نشهد منذ أيام؛ وعندها سنصل إلى مرحلة تصبح فيه الكوادر الطبية متعبة ومرهقة وغير قادرة على مواصلة عملها، بغضّ النظر عن القدرة الاستيعابية للمستشفيات، إذ نعرف تماماً أن القدرة البشريّة لديها حدودها، ولا يمكن للطواقم الطبية الاستمرار في إجراء العمليات المتواصلة على هذا المنوال لفترة طويلة.
لذلك، تتضمّن الخطة الصحيّة إرسال الجرحى والحالات إلى مناطق أخرى للتخفيف من الضغط على مستشفيات الخط الأول، مع الاستمرار في التنسيق بين المستشفيات لنقل الحالات؛ وما زلنا قادرين كما يشير هارون على استيعاب الوضع.
في ذلك السياق، يبرز أن ما شهدته مستشفيات لبنان خلال انفجارات أجهزة الـ”بيجرز” والاتصال اللاسلكي، لا يُقارن بأيّ حادث صحيّ آخر. كانت التحدّيات كبيرة وصعبة، والعمليات معقّدة ومتواصلة، ومعظم الحالات تحتاج إلى متابعة طبيّة لسنوات وعمليّات لاحقة. ولم يكد القطاع الصحيّ يلتقط أنفاسه حتى وجد نفسه في معركة لا تقلّ شراسة مع ضربات جويّة متواصلة أدّت إلى وقوع مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمصابين.
كذلك، يعترف هارون بأن “ما شاهدناه في انفجارات أجهزة الـ”بيجر” والاتصال اللاسلكي، لا يقارن بما عشناه في حرب تموز (يوليو) 2006، بل لا تصحّ المقارنة بينهما، لأن الحالات الناجمة عن انفجارات الـ”بيجرز” تسبّبت بحالات معقّدة ومتعدّدة في الجسم الواحد، وتتطلّب سنوات من العلاجات والعمليات المتواصلة. كذلك، فإن تدفّق 3000 حالة في غضون نصف ساعة شكَّل بحدّ ذاته حادثاً يصعب استيعابه”.
استنزاف الطواقم الطبية
يتشارك المدير العام لمستشفى دار الأمل الدكتور علي علّام ونقيب المستشفيات الخاصة المخاوفَ نفسها. وتحدث لـ”النهار” عمّا يقلقه مشيراً إلى إن “الهاجس الأكبر يتمثّل باستنزاف الطواقم الطبية التي تعمل ليلاً نهاراً. ونخشى أن تشتدّ حدّة الأمور إذا حصل ما يحول دون وصول الطواقم الصحيّة البديلة إلى المستشفى، مع عدم قدرة الأطباء والممرضين المتواجدين في المستشفى على الاستمرار في تأدية واجباتهم نتيجة الاستنزاف الطويل”.
وبعيداً عن هذا السيناريو، يشير علام إلى أن “المستشفى جاهز لاستقبال الحالات، ولم نصل بعد إلى القدرة الاستيعابية القصوى. الوضع تحت السيطرة ولا وجود لحالات صعبة، وغالبيتها تعتبر متوسطة، كما أن كلّ المستلزمات الطبية والأدوية متوافرة، ولا خوف من انقطاعها”.
لم يرحم الطيران الإسرائيلي مناطق عدّة، من بينها مدينة بعلبك في سهل البقاع، التي كان لها موعد مع صواريخ، وقصف أدّى إلى استشهاد العديد وإصابة الكثير من المدنيين. يؤكّد الدكتور عباس شكر المدير العام لمستشفى بعلبك الحكومي أن “الإصابات التي وصلت إلى المستشفى كانت طفيفة أو قاتلة بمعنى استشهاد أصحابها”.
وعليه، لم نشهد تدفّقاً كبيراً للحالات، وغالبيتها كانت خفيفة، ولا تستدعي الدخول إلى المستشفى. ما زال الوضع تحت السيطرة، لكننا أمام عدو لا يعترف بأيّ ضوابط، وكلّ السيناريوهات مطروحة. وقد شاهدنا ما فعله في مستشفيات غزة وفي الجنوب اليوم، لذلك نحن نقوم بواجبنا والباقي “ع الله”.
تأثير الموقع الجغرافي
قد يكون الضغط على بعض المستشفيات أقلّ بكثير من غيرها، بحسب موقعها الجغرافيّ وقوّة القصف في المنطقة.
ولا يخفي مدير مستشفى النبطية الحكومي الدكتور حسن وزنة التحدّيات الكبيرة التي واجهها المستشفى، لا سيما مع عدد من الجرحى والشهداء. صحيح أن أعداد المصابين أكبر من القدرة الاستيعابية للمستشفى، سواء من ناحية عدد الأسرّة وغرف العمليات، إلا أنّ الفريق الطبيّ نجح في التعامل مع حالة الطوارىء “وانعمل الواجب كما يجب”.
وفي إحدى نوبات القصف المجنون، استقبل المستشفى 18 شهيداً، و182 جريحاً، تفاوتت إصاباتهم بين متوسّطة وحرجة.
أزمة العناية المركّزة
3 أيام من حفلة الجنون أدّت إلى وصول مستشفى النبطية إلى قدرته الاستيعابية القصوى، وفق ما يؤكّد رئيس قسم العناية المركّزة الدكتور حسن أبو عباس، حين يقول إنّ “غرف العناية المركّزة أصبحت ممتلئة جميعها، وكلّ الحالات موصولة على أحهزة التنفّس الاصطناعي”.
ووفق وصف أبو عباس، “كانت الأمور فظيعة، وبعض الجرحى لم نتمكّن من إجراء عمليات لهم نتيجة الضغط الكبير في غرف العمليات. كنّا أمام مجزرة. مشهد يصعب وصفه، والله يعينّا في حال استمرّت الأمور على هذا النّحو”.
الكلّ يتحدّث عن أن الصعوبة الأساسية تمثّلت بقدوم أعداد كبيرة من الجرحى في الوقت نفسه، وهذا ما دفع الأطباء إلى تقسيم الطوارىء إلى عدّة مستويات لتقييم حالة كلّ مريض قبل نقله إلى القسم المناسب.
تشهد غرف العمليات عملاً متواصلاً ليلاً ونهاراً، وفق ما يؤكده مسؤول قسم الجراحة العامة في مستشفى النبطية الحكومي الدكتور مختار مروة، الذي يشرح بأن “بعض الجرحى يحتاجون إلى إجراء أكثر من عملية، وفي أكثر من عضو، نتيجة الإصابات المشتركة التي تعرّضوا لها”.
ويضيف مروة: “تتفاوت الإصابات ونوعيتها إلا أنّ أكثر الحالات التي شهدناها تشمل إصابات في البطن، وبتراً في الأطراف، وإصابة في الصدر، وتمزّقاً في الأعضاء الداخلية، ونزيفاً في البطن، وإصابات في الكبد والكلى وغيرها”.
كخلاصة، من الواضح أن الهدف الأول الآن لهذا المستشفى الجنوبي يتمثّل بتأمين استقرار الحالات الطبية كي يتمكّن من نقلها إلى مستشفيات أخرى. وبالتالي، إبقاء المستشفى في حالة جهوزية تامة لاستقبال الحالات الجديدة الطارئة. هذا هو واقع مستشفى النبطية اليوم، خليّة نحل لا تتوقف، وأطباء يستمرّون في معالجة الجرحى وإنقاذهم، حتى لو عاندتهم الظروف كلها.
ليلي جرجس – النهار