في ظلّ الأزمات المتعاقبة التي أثقلت كاهل اللبنانيين، يبدو أنّ مشهد الطوابير بات مرادفاً لحياة المواطن اليومية، خاصة عند الحديث عن المواد الأساسية مثل الخبز. فمنذ اشتداد الحرب في جنوب لبنان وما نتج عنها من نزوح جماعي، ازداد القلق لدى الناس من أن يؤدّي الوضع المتأزّم إلى الشحّ في هذه السلعة الحيوية. ومع توارد الشائعات عن نقص الطحين واحتمال حدوث أزمة، شهدت الأفران في لبنان توافداً غير اعتياديّ للمواطنين لشراء الخبز بكميات كبيرة، في محاولة لتخزين ما أمكن قبل تفاقم الأمور، وتشكّلت طوابير طويلة أمام الأفران.
لكن، هل يعكس هذا المشهد فعلاً واقعاً ميدانيّاً يشير إلى أزمة وشيكة؟ أم أنّ هناك مبالغة في التصوّرات لدى المواطنين؟ بين مشاهد الطوابير وتطمينات المعنيين، يصبح من الصعب تمييز الحقيقة من الوهم.
ناصر سرور، رئيس اتحاد نقابات الأفران في لبنان، يُطمئن بأنّ “المخزون يكفي لأكثر من شهرين، والطحين متوفّر في الأفران والمطاحن على حدّ سواء”. سرور أكّد لـ”النهار” أنّ “القمح متوفّر، وحركة استيراد القمح لم تتأثر. ما شهدناه في الأيام الأولى لاشتداد القصف في جنوب لبنان من طوابير أمام الأفران هو تهافت غير مبرّر من المواطنين نتيجة مخاوف قديمة”. ويرى سرور أنّ الأوضاع قد تتغيّر فقط في حال اشتدّت الحرب وفرض حصار على الموانئ، لكن حتى اللحظة، “لا داعي للهلع والخبز متوفّر وبكثرة”.
هذا التطمين لم يُقنع الجميع. يشير أحد المواطنين الجنوبيين إلى ما وصفه بالتلاعب في كميات البيع: “حاولت شراء أكثر من ربطة لأخذها إلى أهلي في جنوب لبنان، لكنّني فوجئت بالرفض، رغم عدم وجود طوابير”. في المقابل، يرى محمّد شعلان، رئيس أفران الوفاء، أنّ “الأزمة الحقيقية كانت في الأيام الأولى من الحرب، حين شهدنا ضغطاً كبيراً على الأفران. لكنّ الأمور عادت إلى طبيعتها، والمخزون اليوم يكفي، والحركة اعتيادية، ويحقّ للمواطن أخذ الكميات التي يريدها من الخبز”. ودعا شعلان المواطنين إلى شراء الخبز حسب حاجاتهم اليومية، وقال: “خذوا الخبز طازجاً يوميّاً، فلا أزمة خبز في لبنان”.
إذاً، ما سبب هذا الخوف المتجدّد؟ يبدو أنّ الذاكرة الجماعية للمواطنين تلعب دوراً أساسيّاً في تأجيج هذه المخاوف. من يعِشْ في لبنان يدركْ تمامًا أنّ أيّ أزمة تنعكس سريعاً على السوق، ما يجعل الناس في حالة ترقّب دائم. ولهذا السبب، تزدحم الأفران فجأة عندما ينتشر خبر هنا أو هناك عن نقص محتمل. يقول أحد الزبائن: “لا نريد أن نُفاجأ بعودة مشهد الطوابير الطويلة. لذلك، يسارع الناس إلى تخزين كميات إضافية”.
على صعيد الأسعار، يثير ارتفاعها موجة أخرى من التساؤلات. فقد وصلت تسعيرة ربطة الخبز في الأفران إلى 77 ألف ليرة. هذا الارتفاع ليس مرتبطًا بالأوضاع الأمنية، وفقاً لشعلان، بل هو نتيجة “انتهاء قرض البنك الدوليّ المخصّص لدعم الطحين، ورفع الدعم عن السلعة، ما دفع الأفران إلى شراء القمح بسعر صرف السوق”.
إذاً، الصورة معقّدة. الحرب في الجنوب قد زادت من المخاوف، لكنّها لم تؤدِ إلى أزمة خبز حقيقية بعد. مخزون الطحين موجود، والمطاحن تعمل، والقمح يصل بانتظام إلى الموانئ، لكن ما نراه في طوابير الأفران في بعض المناطق هو انعكاس لمخاوف أعمق لدى المواطن اللبناني الذي يترقّب الأسوأ في كلّ لحظة.
لكن، ماذا لو تطوّرت الأمور في جنوب لبنان؟ هل تستطيع الأفران الصمود؟ هنا يُجمع المعنيون على أنّ “الأزمة الحقيقية ستبدأ إذا توقّفت حركة الاستيراد”. سرور يكشف عن خطة طوارئ لتأمين الطحين في حال توسّعت الحرب، بالتعاون مع المنظمات الدولية، لكنّه يُصرّ على أنّ “الأمور تحت السيطرة حاليّاً ولا داعي للقلق”.
في النهاية، يبدو أنّ الحديث عن أزمة خبز في لبنان اليوم هو حديث سابق لأوانه. الخوف هو سيّد الموقف، والمشهد اليوميّ أمام الأفران يعكس حالة عدم الثقة بين المواطن ومنظومة الإنتاج وفشل الدولة في إدارة الأزمات، وليس نقصاً فعليّاً في الطحين. الأزمة ليست أزمة خبز، بل أزمة ثقة. وحتى تتمّ استعادة هذه الثقة، سيبقى مشهد الطوابير مرآة لقلق دفين يعيشه المواطن اللبنانيّ، قلق من حاضر ضبابيّ ومستقبل أكثر غموضاً.
محمد بيضون – النهار