أصابت عملية “سهام الشمال” العسكرية التي شنّتها إسرائيل على لبنان في 23 أيلول الجاري العمق اللبناني، حيث أحدثت صدمة عنيفة في بنية المجتمع اللبناني واقتصاده، في يوم مشؤوم كان الأكثر دموية منذ نهاية الحرب الأهلية. ومع دخول البلاد رسميّاً دوامة الحرب، تساؤلات عدّة تُطرح حول قدرة اقتصاد مُنهك، على الصمود في وجه عاصفة من التحديات المتلاحقة التي بدأت منذ خريف 2019، لا سيما وأنّ الحرب المُستعرة تزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي المتأزم، وتضع مزيداً من الضغوط على مكوناته، ما يزيد من احتمالية انهياره في حال تفجّر الوضع وحدوث أي تصعيد إقليمي إضافي.
تجدد التحذيرات
صندوق النقد الدولي (IMF) قال إنّه يراقب بقلق بالغ تصعيد الصراع في المنطقة. وأشار متحدث باسمه إلى أنّ الصراع الحالي يشهد خسائر بشرية فادحة ويلحق الضرر بالبنية الأساسية المادية في جنوب لبنان، ويؤدي إلى تفاقم الوضع الاقتصادي الكلي والاجتماعي الهش بالفعل في لبنان، لافتاً إلى أنّ تقييم التأثيرات الاقتصادية ما زال سابقاً لأوانه.
كما أعلن البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD) أن الحرب و”الطقس المتطرف” يؤثران على النمو الاقتصادي في دول يغطيها البنك، مشيراً إلى أن الأزمة المتصاعدة في الشرق الأوسط تفاقم الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان وتضرّ بدول مجاورة مثل الأردن ومصر.
من جهتها، حذرت وحدة الاستخبارات الاقتصادية (EIU)، من أن لبنان لن يشهد أي استقرار ملموس قبل النصف الثاني من العام المقبل، متوقعةً عودة النمو الاقتصادي إلى مستوياته الطبيعية بحلول عامي 2026 أو 2027. كما رجّحت أن يشهد الاقتصاد اللبناني انكماشاً للعام السابع على التوالي في عام 2024، حتى قبل بدء هجمات الثالث والعشرين من أيلول الجاري.
المحللة البارزة لشؤون منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا في الوحدة، كيرين أوزييل، قالت إنّ لبنان الذي يعيش أوضاعاً اقتصادية صعبة للغاية بسبب الأزمات الناجمة عن سنوات من الجمود السياسي ونحو 12 شهراً من الصراع، قد يواجه تباطؤاً اقتصادياً حاداً في بداية العام 2025.
وأضافت: إنّ تصاعد حدّة الصراع من شأنه أن يعقّد مسار تحقيق الاستقرار الاقتصادي، مُشيرة إلى أنّ التدهور الحاد في الاقتصاد والبنية الأساسية في لبنان نتيجة للأزمة الاقتصادية وسنوات من عدم الاستقرار السياسي وسوء الإدارة، جعله يفتقر إلى القدرة على الصمود حتى في مواجهة حملة عسكرية قصيرة نسبياً بهذا الحجم. كما توقعت أن يؤدي هذا إلى تفاقم مشكلات العرض وزعزعة استقرار الليرة اللبنانية مرة أخرى، ما يزيد من الضغط التضخمي الذي انحسر تدريجياً في الأشهر الماضية.
وأكدت أوزييل أنّ الأزمة الإنسانية المتكشفة تزيد من البؤس المالي الذي أصاب لبنان، حيث تراجعت التوقعات الاقتصادية للعام الحالي بصورة ملحوظة. ويعتقد خبراء اقتصاديون أن الصراع المتصاعد سيؤدي إلى انكماش اقتصادي غير مسبوق، مع تقديرات بأن يتراوح التراجع في الناتج المحلي الاجمالي بين 10 و25 في المئة، ما يدمر قطاعات حيوية مثل الزراعة والسياحة، ويؤثر سلباً على البنية التحتية الحيوية للبلاد.
الاقتصاد قبل 23 أيلول
يئن الاقتصاد اللبناني تحت وطأة انهيار شامل، بحيث يعاني من انكماش ملحوظ وتدهور حاد في الليرة اللبنانية وارتفاع في مستويات التضخم، فضلاً عن أزمة عميقة في القطاعين المصرفي والمالي وتراجع في احتياطيات المصرف المركزي في ظل فراغ رئاسي، وغياب تنفيذ الاصلاحات المنشودة. وشهد الاقتصاد اللبناني تراجعاً حاداً في الناتج المحلي الإجمالي، بحيث انخفض من 51 مليار دولار في العام 2019 إلى 18 مليار دولار في العام 2023، ومن المتوقع أن يتواصل هذا الانخفاض ليصل إلى 16 مليار دولار في العام الجاري.
وفي تقرير لها، ربطت مؤسسة “S&P Global” بين الأزمة الاقتصادية المستمرة في لبنان وضعف الحوكمة وفاعلية المؤسسات المنخفضة، محذرة من استمرار تدهور قيمة الليرة اللبنانية لتصل إلى 115 ألف ليرة عام 2025 و136 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد بحلول العام 2026. وبدورها، أكدت وكالة “فيتش” استمرار الوضع المالي المتردي للبنان، مع بقاء تصنيفه الائتماني عند أدنى مستوى ممكن “RD” بسبب تخلفه عن سداد سنداته الحكومية طويلة الأجل بالعملة الأجنبية.
وارتفع معدل الفقر بين اللبنانيين بصورة كبيرة خلال العقد الماضي، ليصل إلى 44 في المئة بحسب تقرير للبنك الدولي، الذي أشار إلى أنّ معدل الفقر في لبنان ارتفع 3 أضعاف خلال عقد ليشمل واحداً من كل 3 لبنانيين. كما أصدرت شبكة أنظمة الإنذار المبكر بالمجاعة (FEWS NET) تقريراً حذرت فيه من تدهور حاد في الوضع الانساني في البلاد، حيث أظهرت بياناتها تزايد حدة انعدام الأمن الغذائي ووصول العديد من المناطق إلى مرحلة “الضغط” وخطر الانتقال إلى مرحلة “الأزمة”.
ومنذ اندلاع الحرب في غزة في السابع من تشرين الأول 2023، تفاقمت الأزمة الاقتصادية سوءاً مع تضرّر قطاع الزراعة وتدمير مساحة ضخمة من الأراضي الزراعية تقدر بـ3 ملايين و200 ألف متر مربع. كما توقفت بصورة تامة الأعمال الزراعية في الجنوب، ما أدى إلى فقدان 30 في المئة من الإنتاج الزراعي اللبناني. وقد تسبب إتلاف الأراضي الزراعية وتلوث التربة بقنابل الفوسفور في تكاليف باهظة قّدّرت ما بين 2.5 مليار دولار و4 مليارات دولار.
بدوره، تكبّد قطاع السياحة خسائر فادحة وصلت إلى أكثر من ٣ مليارات دولار، وتراجعت عائداته بنسبة 50 في المئة مقارنة بالعام الماضي. كما تضرّر الاقتصاد اللبناني بصورة كبيرة بحيث خسر نحو 10 مليارات دولار. وبلغت نسبة الأضرار الناجمة عن الحرب حتى شهر آب ما بين 40 و50 في المئة من إجمالي الأضرار التي شهدها لبنان في حرب تموز عام 2006.
كما تباطأ القطاع التجاري، خصوصاً في المناطق الجنوبية، حيث تسبب نزوح المواطنين في تقلص الحركة التجارية وتحمّل المؤسسات والمحال التجارية خسائر فادحة. كذلك، انعكست التوترات في البحر الأحمر بصورة مباشرة على حركة التبادل التجاري، بحيث أدت الزيادة الكبيرة في تكاليف الشحن والتأمين إلى تقليص حجم الصادرات وارتفاع أسعار الاستيراد وبالتالي زيادة أسعار السلع النهائية للمستهلك.
ثلاثية تهدد الاقتصاد
في انعكاس مباشر لاعتداءات 23 أيلول، أعلن مطار رفيق الحريري الدولي إلغاء العديد من الرحلات الجوية من العاصمة اللبنانية واليها، وشهد تراجعاً حاداً في حركة المسافرين بعد أن علقت شركات طيران مختلفة رحلاتها الجوية إلى بيروت.
كما شهد لبنان حركة نزوح واسعة النطاق، بحيث تجاوز عدد النازحين المسجلين في مراكز الإيواء 53 ألف شخص. في حين أشارت التقديرات الأولية إلى أن العدد الاجمالي للنازحين قد يصل إلى أكثر من نصف مليون شخص. ويعاني هؤلاء النازحون من نقص حاد في المأوى والغذاء والرعاية الصحية، ما يستدعي توفير مساعدات إنسانية عاجلة لا سيما أنّ تأمين الإيواء لعدد كبير منهم يشكّل ضغطاً هائلاً على الاقتصاد، في ظل الانهيار المالي والنقدي وغياب مصادر الدعم والتمويل الدولي. فبحسب خطة الطوارئ، قدرت الحاجة إلى 72 مليون دولار لإغاثة 100 ألف نازح، إلا أن المنظمات الدولية ساهمت في 27 مليون دولار، واقتصرت مساهمة الدولة على 10 ملايين دولار، تاركة فجوة تمويلية كبيرة تقدر بـ35 مليون دولار، بالاضافة إلى إصرار المصرف المركزي على عدم إقراض الدولة إلا بموجب قانون خاص، كلها مؤشرات تعكس مدى عمق الأزمة.
وعليه، قد تتطلب أزمة النزوح الحالية تخصيصاً مالياً إضافياً لتلبية الاحتياجات المتزايدة للبنية التحتية والخدمات الأساسية. إلا أن هذه الزيادة، في ظل محدودية الموارد المالية للدولة، تفرض العديد من التحديات والصعاب، إذ من المتوقع أن يؤدي هذا الإنفاق المتزايد إلى تفاقم حدة الأزمة الاقتصادية، وزيادة العجز المالي، وارتفاع معدلات التضخم نتيجة زيادة الطلب على السلع الأساسية، ما يضاعف من حدة الأزمة المعيشية للمواطنين، ويهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
وفي ما يتعلق بالأمن الغذائي، أكّدت وزارة الاقتصاد أن المخزون الاستراتيجي من المواد الغذائية يكفي لتلبية احتياجات البلاد لمدة تتراوح بين ثلاثة وأربعة أشهر، مع وجود مخزون كافٍ من القمح لمدة شهرين. وقد تم توجيه جميع المراقبين الاقتصاديين في المرافئ بتسريع عملية إخراج البضائع بهدف تفادي أي تخزين طويل الأمد للسلع الغذائية.
لكن اقتصاد لبنان بوضعه الراهن لا يملك القدرة على الصمود طويلاً، وهو يفتقر إلى المقومات الأساسية التي تجعله مؤهلاً لتحمّل التداعيات الكارثية لحرب شاملة، خصوصاً في حال تكرار سيناريو حرب تموز 2006، وفرض حصار على الموانئ اللبنانية وتعطل حركة المطار، ما سيتسبّب في تعطّل الحركة التجارية، وتوقف كامل لاستيراد السلع وتصديرها، الأمر الذي ينذر بنقص حاد في المواد الأساسية والوقود.
تحت نيران الحرب
بعد أن أظهر الاقتصاد اللبناني بوادر تعافٍ ضعيفة في عامي 2022 و2023، مدفوعاً بانتعاش السياحة وزيادة التدفقات المالية ودولرة الرواتب، جاءت التوترات الأمنية والجيوسياسية لتقوّض هذه الآمال، مُلحقة أضراراً بالغة بالاقتصاد مساهمة في تفاقم الأزمة المالية.
واليوم، تأتي الحرب لتعطل من جديد مسار التعافي مهددةً بعودة الاقتصاد إلى حالة ركود، ومفاقمة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية؛ لا سيما في ظل فراغ رئاسي، وغياب خطة إنقاذ اقتصادية واضحة وإصلاحات هيكلية جذرية لإنقاذ الاقتصاد اللبناني من الانهيار… فهل سينجو لبنان واقتصاده من براثن الحرب؟
سوليكا علاء الدين – لبنان الكبير