لم يترك توسع الاعتداءات الصهيونية على لبنان الصناعة اللبنانية، المتعثّرة أصلاً، بمنأى عن تأثيراتها. بعض المصانع طاولها القصف المباشر، ولا سيما في الضاحية الجنوبية ومحافظتي الجنوب والنبطية، وفي المناطق البعيدة نسبياً تضرّرت المصانع بسبب هجرة العمال، وخصوصاً السوريين، إذ نزحوا مع عائلاتهم نحو مناطق يعتقدون أنها آمنة. المصانع لم يعد بإمكانها تسليم الطلبيات للزبائن وبدأ الشلل يتسلّل إلى دورة الإنتاج التي تعاني من ضعف بنيوي.لا يمكن رسم صورة واحدة لتداعيات تطوّر الحرب على المعامل والمصانع. فالاعتداءات بقيت لـ 11 شهراً محصورةً بشريط حدودي ضيّق على الحدود اللبنانية – الفلسطينية. في تلك الفترة، كانت الأكثر تأثّراً مصانع الغذاء في سهل الخيام ومرجعيون والمزارع التي ترتبط بها في قرى حولا وميس الجبل وعيترون. كما كان هناك قصف متعمّد لعدد من المصانع الكبيرة في منطقة صور، مثل معمل الجلود «Luffy leather»، ومعمل «طهماز» للمعادن. وبعد توسّع الاعتداءات، وقع الضرر بشكل مباشر على المصانع في الضاحية الجنوبية، والبقاع، والجنوب. فيما كان تأثير الاعتداءات على المصانع البعيدة عن المناطق التي تتعرض للقصف، غير مباشر. واقتصر على فقدانها اليد العاملة بسبب ابتعاد العمال جغرافياً عن مصانعهم، ولا سيّما سكان المناطق التي تتعرض للاعتداءات، وينتقلون يومياً إلى مناطق مثل المتن، والمكلس، وزحلة. والذين فقدوا القدرة على الوصول إلى مراكز عملهم.
في لبنان اليوم، «يعمل نوعان من المصانع»، بحسب رئيس تجمّع صناعيّي المكلس منصور مشعلاني: المصانع المتعاقدة مع زبائن خارج لبنان، ما يضعها في خانة المصدّر الذي يغذي أسواقاً غير متأثرة بالأوضاع في لبنان، «وهذه لا يتوقف عملها أبداً»، ومصانع المواد الغذائية الأساسية، وهي اليوم مسؤولة عن تموين جزء كبير من حاجات السوق المحلية. فيما تضاءل العمل والإنتاج في مصانع «السلع الكمالية»، مثل المفروشات، ومواد البناء لأن الناس يفضّلون إبقاء الأموال في جيوبهم، وعدم صرفها، «إذ لا يدفع الزبون ثمن أيّ سلعة يزيد سعرها على 40 دولاراً في زمن الحرب».
في البقاع مثلاً، المشهد ليس واحداً. «معظم المصانع في بعلبك – الهرمل مقفلة، والشلل شبه تام»، بحسب رئيس تجمّع صناعيي البقاع نقولا أبو فيصل. فيما «فتحت المصانع أبوابها في المنطقة الممتدة من رياق حتى البقاع الغربي، إنّما تعمل بطاقة محدودة، ولساعات معيّنة، بسبب ظروف الحرب». وبالتالي «لا إنتاجية كاملة». أما الخسائر المباشرة، فلم تقع على ممتلكات المعامل، من مبانٍ وآلات، حتى اللحظة، وهذا معاكس تماماً لما جرى في الجنوب والضاحية مثلاً، بل «اقتصرت الخسائر على توقف الإنتاج».
في المقابل، تعلقت مشكلة الصناعيين في منطقة المكلس البعيدة عن الاعتداءات الصهيونية المباشرة بصعوبة تنقلات العمال، وتدنّي الطلب على الإنتاج. مثلاً، أدّت حركة النزوح إلى إبعاد العمال عن مصانعهم، بعد تفضيل أصحاب البيوت والغرف تأجير ممتلكاتهم للنازحين القادرين على دفع بدلات إيجار أعلى. فضلاً عن مشكلات أمنية تمنع العمال السوريين من الوصول إلى المعامل، بحسب مشعلاني. كما أدى إلغاء عدد من الزبائن لطلبياتهم إلى مواجهة الصناعيين مشكلات إضافية على مستوى تدني الإنتاج. وما يضاعف من أثر هذه المشكلات «المصاريف التشغيلية الكبيرة»، إذ «يترتب على أصحاب العمل دفع معاشات العاملين، ورغم ضعف الإنتاج لن يُصرَف أحد. كما يطالب عدد من الموردين المصانع بتسديد فواتيرهم نقداً، مثل أصحاب المولدات، وموردي الوقود والمواد الأولية».
وأمام هذه المطالبات، تحدّث مشعلاني عن «معاناة أصحاب المصانع من العجز، نتيجة للغياب التام للدولة، وانهيار القطاع المصرفي الذي فقد القدرة على التسليف، إذ كانت المصانع تستعين بأموالها في المصارف للصمود أثناء فترات الأزمات». كما لفت إلى تكبّد أعباء إيجارات كبيرة، تدفعها المصانع لأصحاب العقارات، وهذا أدّى إلى «إقفال 25% من المعامل في منطقة المكلس، فيما بقيت فقط المصانع المملوكة لأصحابها».
ندوب عميقة في مصانع الضاحية
عرقل توسع الاعتداءات الصهيونية على لبنان دورة الإنتاج في الضاحية الجنوبية لبيروت، وأوقفها تماماً في الأيام الأولى. خلال الأسبوع الأول، أغلقت المحال التجارية والمصانع أبوابها في المنطقة ولا سيّما محال بيع الكماليات مثل معارض المفروشات، والمجوهرات، والإلكترونيات. في المقابل، عاد جزء بسيط من ورش الصناعة الصغيرة للعمل مطلع الأسبوع الجاري، مثل ورش لفّ المحركات الكهربائية، وصناعة الأحذية، والكرتون، والورق. لكن النزوح ترك ندوباً عميقة في صناعات الضاحية، إذ يمكن أن تقطع «شارع هادي نصر الله صباحاً بسرعة 60 كلم بالساعة. وبسبب الازدحام، هذا كان أمراً مستحيلاً في الأيام العادية»، يقول محمد العامل في أحد معامل النسيج في المنطقة. وبعد وصوله إلى مكان عمله، يتّضح أنّ المعمل شغّال بشكل جزئي. «نحن سنستمر في العمل خلال ساعات الصباح الأولى، ما دام العمال موجودين، والطلبيات لم تسلّم»، بحسب صاحب معمل نسيج، لكن «لن نشتري مواد أولية إضافية، وعند تصريف الموجود سنقفل، وننتظر انتهاء الحرب».
فؤاد بزي – الأخبار