بعد عام على 7 تشرين الأول 2023، يجد لبنان نفسه في واقع مرير يذكّر بما عانته غزة على مدار الأشهر الاثني عشر الماضية، بحيث أطبقت عليه حرب خانقة، ما وضعه في حالة تُشبه “غزة 2”. هذا الواقع الجديد حول لبنان إلى بلد منكوب على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، لا سيما أن تداعيات الحرب تتضافر مع أزمة اقتصادية غير مسبوقة.
لكن وضع لبنان في حرب عام 2024 يختلف اختلافاً جذرياً عن الظروف التي شهدها خلال حرب 2006، ليس من الناحيتين السياسية والعسكرية وحسب، بل أيضاً من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. ففي الوقت الذي كانت فيه البلاد تستفيد من تدفقات مالية كبيرة، حيث كان الدعم الدولي والعربي والسعودي سخياً، ما ساهم في إعادة الإعمار بسرعة وبدء عملية التعافي، يواجه لبنان اليوم أزمة اقتصادية ومالية عميقة بدأت مع الانهيار المالي في عام 2019.
وعلى الرغم من الأضرار الكبيرة التي لحقت بالبنية التحتية نتيجة الحرب في العام 2006، إلا أن لبنان كان يتمتع آنذاك بمقومات دعم قوية. أما اليوم، فقد أدت الأزمة الاقتصادية إلى فقدان العديد من اللبنانيين مدخراتهم نتيجة انهيار القطاع المصرفي والنظام المالي. كما تدهورت قيمة الليرة اللبنانية بصورة حادة، بحيث فقدت أكثر من 90 في المئة من قيمتها، ما أدى إلى ارتفاع كبير في معدلات التضخم إلى أكثر من 200 في المئة وارتفاع حاد في الأسعار.
كما تدهور قطاع الخدمات الحيوي بصورة ملحوظة، بحيث انخفضت إيرادات الدولة بشكل حاد، ما أثر على قدرتها على توفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والرعاية الصحية. كذلك ارتفعت معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، إذ أغلقت آلاف الشركات والمؤسسات أبوابها. في ظل هذه الظروف القاسية، بات نحو 80 في المئة من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر.
باختصار، دمرت الأزمة الاقتصادية التي بدأت في العام 2019 الأسس المالية التي يمكن لأي دولة الاعتماد عليها في أوقات الحرب.
ومنذ بدء الحرب في 7 تشرين الأول 2023، أصبح السؤال المطروح دائماً هو: هل يمكن للبنان خوض حرب جديدة؟ من الناحية الواقعية، كانت الاجابة شبه مستحيلة نظراً الى الوضع الاقتصادي الراهن. فقد أصبح الاقتصاد اللبناني متهالكاً إلى حد كبير، ما يجعل أي تصعيد عسكري يهدد بكارثة أكبر. تعاني الحكومة من نقص حاد في الموارد المالية، بحيث بالكاد تستطيع تمويل النفقات الأساسية، وتواجه عجزاً كبيراً في الموازنة. الاعتماد على الديون أو المعونات الخارجية لم يعد خياراً متاحاً، نظراً الى فشله في تسديد الديون السابقة. كما أن البنية التحتية تعاني من انهيار شبه كامل، ويتطلب تأهيلها استثمارات ضخمة غير متوافرة في ظل الأزمة الحالية. إضافة إلى ذلك، يشهد التضخم تسارعاً ملحوظاً، ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الضرورية، وتراجع الاحتياطي النقدي في المصرف المركزي بصورة حادة، الأمر الذي يزيد من صعوبة إعادة بناء ما قد يتضرر في حال نشوب أي حرب.
خسائر الحرب وتوقعات المستقبل
أما وقد دخل لبنان الحرب فعلياً، ومع استمرار الشلل السياسي الذي يفاقم من معاناة الشعب، فإن خسائر لبنان الاقتصادية ستتجاوز بكثير تلك التي لحقت به في حرب 2006. فقد توقّع البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية تراجعاً إضافياً في الاقتصاد اللبناني خلال العام 2024، نتيجة الظروف الجيوسياسية المتوترة، لا سيما في ظل التصعيد الحالي بين إسرائيل و”حزب الله”. وأشار البنك إلى أن الاقتصاد اللبناني سيشهد انكماشاً بنسبة 1 في المئة خلال العام الجاري، في تحول جذري عن توقعاته السابقة في أيار، التي كانت تشير إلى احتمال تحقيق لبنان نمواً طفيفاً في العام 2024.
علاوة على ذلك، خفّضت وكالة “ستاندرد آند بورز” تصنيف ديون لبنان السيادية بالعملة الأجنبية إلى “تعثر انتقائي”. وأوضحت أن الخسائر البشرية والأضرار التي تلحق بالبنية التحتية، بالاضافة إلى الارتفاع الكبير في الكلفة المالية للحرب، ونزوح السكان، وهبوط عوائد السياحة، كلها عوامل ستشكل ضغطاً هائلاً على الاقتصاد اللبناني. كما أن التغيرات في المشهد السياسي بسبب تراجع نفوذ “حزب الله” ستعزز من حدة هذه الضغوط، ما يجعل مستقبل لبنان الاقتصادي أكثر غموضاً وصعوبة.
دائرة الأزمات
يهدد غياب الدعم المالي الخارجي وتفاقم الأزمات الداخلية بخلق حلقة مفرغة من الأزمات. وفي ظل هذه الظروف، سيتعرض الناتج المحلي الاجمالي لانخفاض حاد نتيجة الحرب، ما يعني خسارة مليارات الدولارات من النشاط الاقتصادي السنوي، بعد أن انخفض بالفعل بنسبة 70 في المئة في السنوات القليلة الماضية.
كما سيزيد النزوح الداخلي جراء القصف الاسرائيلي الذي وصل إلى حوالي 1.2 مليون نازح وهو الأكبر في تاريخ لبنان، من الضغط على الموارد المحلية، ما يعوق قدرة لبنان على توفير الغذاء، والسكن، والخدمات الصحية للنازحين. ويُتوقع انكماش اقتصادي يتراوح بين 10 في المئة و25 في المئة هذا العام، مع تدمير قطاعات حيوية بدءاً من الزراعة وصولاً إلى السياحة، بالاضافة إلى الأضرار التي ستلحق بالبنية التحتية الحيوية.
ومن المتوقع أيضاً أن تتجاوز خسائر الحرب في البنية التحتية والمنازل عشرات مليارات الدولارات، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. أما في القطاع السياحي، فستكون الخسائر أكبر، بحيث يُقدّر أن تصل إلى 5 مليارات دولار. هذا المشهد الكئيب يعكس عمق التحديات التي يواجهها لبنان في سعيه الى التعافي والنهوض لاحقاً.
تحول جذري وآثار طويلة الأمد
يمر لبنان بمحنة اقتصادية غير مسبوقة، تتفاقم مع كل يوم يمر من الحرب الحالية. فهذه الأزمة ليست مجرد امتداد للأزمة التي بدأت في العام 2019، بل تمثل تحولاً جذرياً في الواقع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، ما يهدد بترك آثار طويلة الأمد.
تاريخياً، كانت الحروب في لبنان تترك آثاراً دائمة على الاقتصاد، ولكن في ظل الوضع الحالي، قد تكون النتائج مدمرة بصورة تفوق بكثير ما شهدته البلاد سابقاً. ففي العام 2006، حصل لبنان على دعم مالي كبير من الدول العربية والأجنبية. اليوم، ومع استنفاد ثقة المجتمع الدولي والعربي نتيجة للفساد المستشري والشلل السياسي، يصبح من الصعب تصور أن لبنان سيحظى بمستوى الدعم المالي نفسه الذي احتاج اليه في الماضي. سيكون ذلك أيضاً رهن المسار السياسي الذي سيرسمه لبنان الرسمي لنفسه في الأشهر المقبلة، ما يزيد من تعقيد التحديات التي تواجهه.
متطلبات تخطي أزمة الحرب
على الرغم من أن من المبكر جداً الحديث عن تخطي هذه الحرب غير المعروف مدتها تظل آفاق التعافي غامضة، بحيث يتطلب الوضع تدخلات سريعة وإصلاحات جذرية لتجاوز الأزمات المتعاقبة. سيحتاج لبنان إلى دعم مالي دولي ضخم بمليارات الدولارات لمساعدات إعادة الإعمار وتلبية الاحتياجات الانسانية، إلى جانب برنامج لإعادة هيكلة الديون أو الحصول على إعفاءات جزئية. من الضروري معالجة الفساد بطرق حازمة لضمان استخدام المساعدات بصورة فاعلة، بحيث أن ذلك سيؤثر على ثقة الدول المانحة بقدرة الحكومة اللبنانية على إدارة الأموال بكفاءة. من دون هذه الإصلاحات والدعم المالي، سيصعب على لبنان تأمين التمويل اللازم لإعادة بناء اقتصاده بعد الحرب، ما يعمّق الأزمة ويعوق جهود التعافي.
هدى علاء الدين – لبنان الكبير