اسرائيل دمّرت غزة بالكامل، ولكن، رغم كلّ الدعم الدولي المنقطع النظير سياسياً، وماديّاً، وتسليحياً، وإعلامياً، على مدى سنة كاملة – ويُصادف اليوم 7 تشرين الاول، الذكرى السنوية لهذه الحرب – ورغم كلّ هذا التدمير للقطاع، لم تتمكّن من أن تحقق الإنتصار الذي تحدّث عنه رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بالقضاء على حركة «حماس»، وإعادة الأسرى. واليوم، مشهد الدمار الشامل نفسه يتكرّر بوحشية متفلتة في لبنان، وأطلق نتنياهو يده في حرب تدميرية للبنى السكنية والمدنية في الضاحية الجنوبية وبلدات الجنوب والبقاع، يتوخّى منها انتصاراً يغطي فيها على فشل حربه في غزة في القضاء على «حماس» وإعادة الأسرى.
نتنياهو، ونتيجة شعوره بالقوّة ونشوة الإنتصار بتفجير أجهزة «البيجر» اللاسلكي واغتيال قيادات «حزب الله»، افترض أنّ ما من شيء عاجزة اسرائيل عن القيام به، وما من مكان لا تستطيع يدها أن تصله، وانّ الانتصار الساحق بات قاب قوسين او أدنى من أن يعلنه، فأطلق غزواً برياً إلى جنوب لبنان. والهدف المعلن، لا يقف عند حدود إعادة سكان الشمال، بل يتعدّاه إلى سحق «حزب الله»، وصولاً الى تغيير النظام في لبنان كمقدّمة لتغيير الشرق الأوسط.
الأميركيون، وبرغم تحذيراتهم المتتالية من العملية البرية وخصوصاً من قبل البنتاغون، وإعلانهم أنّهم لن يشاركوا إسرائيل فيها، غطّوا هذا الغزو على اعتبار أنّ العمل العسكري قد يكون مطلوباً للتعجيل بالحلّ الديبلوماسي وفق الخريطة الأميركية المعدّة لهذا الحلّ، وأنّ إضعاف «حزب الله» من شأنه أن يسرّع في هذا الحلّ، كما يسرّع في انتخاب رئيس للجمهورية.
ولكن، في ذروة الحديث من جبهة الغزو، عن أنّ «انتصاراً محسوماً»، وضمن فترة مداها الأقصى اسبوعان إلى ثلاثة، تبدّت في وجهه صدمتان أيقظتا نتنياهو من سكرة النشوة، وهذا ما يقوله الإعلام الأسرائيلي:
الصدمة الأولى، إنّ الغزو الذي اراده نتنياهو وأركان حربه، سريعاً وحاسماً، يُجابَه بمقاومة شرسة من قبل «حزب الله»، منعته من التقدّم النوعي إلى ما بعد الحافة الأماميّة للحدود، ولاسيما الى البلدات التي تفصل بضعة أمتار بينها وبين الجدار الحدودي الفاصل. والإعلام الاسرائيلي يحذّر من عودة السقوط في المستنقع اللبناني، ويصرّح علناً بأنّ الجيش الإسرائيلي يواجه حرباً صعبة للغاية، ويُمنى بخسائر كبيرة في مواجهة قدرات «حزب الله» العسكرية والقتالية الكبيرة جداً.
الصدمة الثانية، الهجوم الصّاروخي الإيراني على إسرائيل، التي اضطر جيشها بعد التسريبات من كبريات شبكات الإعلام العالمية، عن انّ الصواريخ أصابت اهدافاً مهمّة، وانّ آثارها التدميرية كبيرة، إلى الاعتراف بأنّ الصواريخ اصابت قواعد عسكرية، مقلّلاً من من حجم الأضرار.
وما بين هاتين الصدمتين، صدمة عنيفة ثالثة لا تقلّ وقعاً بعملية إطلاق النار في تل ابيب التي ادّت إلى مقتل 7 اسرائيليين وجرح 16 آخرين. تلتها عملية رابعة بعدها بالأمس في بئر السبع أسفرت عن قتلى وجرحى إسرائيليين.
وإذا كانت اسرائيل تتفوّق من الجو على أهداف مدنية مأهولة في البقاع والجنوب، وشقق سكنية ومراكز صحيّة في بيروت ومناطق لبنانية مختلفة، وأهداف سكنية وبنى مهجورة من سكانها خصوصاً في الضاحية الجنوبية، إلّا أنّ هذا التدمير الشامل، لا يعني حسم الحرب كما تريد، ولا يعيد سكان الشمال، ولا يوفّر الأمن لهم. وهذا ما يقوله محللون إسرائيليون. معنى ذلك أنّ الحسم في الميدان، لكن الميدان، وبعد أسبوع من إطلاق العملية البرية يشي بعكس ذلك. الجيش الإسرائيلي صُدم بالعدد الكبير للإصابات التي مُني بها، ويقول انّه يحشد وسيوسع نطاق عملياته. و»حزب الله»، باعتراف الإسرائيليين أنفسهم، يقدّم ثباتاً في الميدان، ويواجه التوغّل الإسرائيلي بقدرات وكمائن وخبرة قتالية عالية.
لا يعني ذلك انّ الميدان ثابت لا يتحرّك، حيث قد تطرأ فيه متغيّرات في أي لحظة، تبعاً للعمليات القتالية، وهو ما ستخبر عنه الأيام المقبلة. لكن الملاحظ في هذه الأجواء، انّه حتى الآن، لا حراكات ظاهرة على أيّ مستوى، ولا مبادرات من أيّ جهة دوليّة، لوقف إطلاق النار.
في التقديرات ما يؤشّر إلى حديث صامت عن اتصالات ومشاورات وجهود تجري بين مستويات دولية متعدّدة، وبمعنى أدقّ مجرّد استطلاعات وأحاديث عامة، ولا شيء ملموساً او يُعوّل عليه حتى الآن. فصاحب القرار الأول والأخير في هذا الشأن هو الولايات المتحدة الاميركية، المنكفئة عن لعب أي دور أقلّه في هذا الوقت.
بحسب هذه التقديرات، فإنّ إسرائيل لا ترغب في حرب استنزاف طويلة، وتبدو من خلال رفع وتيرة تدميرها انّها تلعب على عامل الوقت، لتحقيق إنجاز. والاميركيون يراقبون مجريات الميدان بالتأكيد. وجمود حراكهم لوقف إطلاق النار في الوقت الحالي، قد يفسّر على أنّه يعكس ما تبدو انّها فترة سماح ممنوحة من الأميركيين لنتنياهو لفرض واقع معيّن على الأرض، يستثمر عليه في مفاوضات الحلّ الديبلوماسي التي يُعدّ لها الأميركيون. وأمّا المدى الزمني لهذه الفترة فشهر على الأقل. وهذا الشهر كما تؤشّر الوقائع الميدانية، سيكون محفوفاً بصعوبات على كل المستويات. وبعد هذه الفترة يُحتمل الشروع سريعاً في مسار الحل الديبلوماسي.
قد يتمكّن نتنياهو من تحقيق إنجاز عسكري وقد لا يتمكّن. وفشله في تحقيق أهدافه في غزة، يتكرّر بفشل مماثل وربما أصعب، في لبنان، فكلا الاحتمالين يحدّدهما الميدان، ولكل من هذين الاحتمالين تداعياته وارتداداته وأثمانه. ولكن بمعزل عن كل ذلك، فإنّ المحكّ الأساس ليس على جبهة لبنان برغم خطورتها وأهوالها التدميرية، بل على الجبهة المشتعلة بين إيران وإسرائيل، والمفتوحة على جبهات وساحات واسعة في المنطقة، وعلى ضوء اشتعالها ستتحدّد مسارات سائر الجبهات، والاتجاه الذي ستسلكه المنطقة برمتها.
المشهد الآن يشي بما لا يقبل أدنى شكّ أنّ ايران وإسرائيل على حافة حرب. إسرائيل تقول إنّها ستردّ بقوة على الهجوم الصاروخي، وإيران تقول إنّها ستردّ على الردّ بردّ أقسى وأكثر شمولية وتدميراً. وعلى ما يقول أحد الديبلوماسيّين الغربيّين، إنّ واشنطن غير مستعدة للدخول في أيّ اشتعال في المنطقة، لأنّ حريقها سيطيح مصالح الدول فيها، ويهدّد الاستقرار العالمي. لكنّها الآن مضغوطة بين رغبتها في عدم تطوّر الأمور إلى حرب شاملة، وبين أن تماشي حليفتها إسرائيل بالردّ على إيران. لكن إيران إعلنت أنّها ستردّ على الردّ سواء اكان رداً قاسياً او رداً متناسباً من النوع الذي يفضّله الاميركيون، ولا يؤدّي الى خروج الامور عن السيطرة وإشعال حرب. من هنا فإنّ الأمر شديد الصعوبة والتعقيد، وثمّة ما يبدو انّه رهان الفرصة الاخيرة، على قنوات ديبلوماسية وسيطة فتحت في اتجاه الإيرانيّين، احتمالات نجاحه ضعيفة.
نبيل هيثم – الجمهورية