حسن الدر
بيننا وبين «إسرائيل» ثأر طويل، جثث وأشلاء ونهر دماء، بكاء وأنين وعويل، وذاكرة مكان عصيّ على الأعداء..
قبلُ، كانت حروب العدوّ على أرضنا عابرة قبلَ أن يقرّر اغتيال الذّاكرة.
نستغرب كلّنا، لماذا تُفخّخ القرى وتُباد عن بكرة أبيها، ولماذا يحتفل الجنود بقتل بيوت خالية من أهليها؟..
أيّ إنجاز هذا لجيش يدّعي الحرفيّة والتّفوّق والانتظام؟..
ولماذا التّباهي والتّفاخر بهذا الإجرام؟..
ثمّ ننتبه، هؤلاء اللّقطاء جنود كيان بلا ذاكرة، هؤلاء لا تربطهم بأرض فلسطين أجداث أجداد ولا أمجاد أسياد، هؤلاء يعيشون عقدة الانتماء إلى أرض لا تنتمي إلى عقيدتهم التّلموديّة ولا إلى عقدهم النّفسيّة والتّاريخيّة، هؤلاء يبحثون عن أثر في الأرض يثبت زعمهم الزّائف فلا يجدون، يحاولون منذ قيام كيانهم توثيق فتات حجر أثريّ أو حتّى رسم أحفوريّ يدلّ على حقّهم في وجودهم على أرضنا، ولكن عبثاً يحاولون!
أمّا نحن، فهذي أرضنا ومسقط قلوبنا ورؤوسنا ونشأتنا الأولى، وبداية ذاكرتنا ونهاية وعينا، هذي الأرض هويّتنا وصورتنا وصوتنا وصمتنا ومنها حياتنا وفيها موتنا.
نحن موزّعون أيّاماً وأحلاماً في تفاصيل قرانا، في زواريب حاراتها وعلى جدران بيوتها وبين سنابل قمحها وتحت أشجار تينها وزيتونها وفي مرارة تبغها وحلاوة عنبها وفيء دواليها ووحل حقولها وصفاء ينابيعها.
ونحن خُطى هاربة على درب العين وساحة البيدر وحي البِركة، وضحكات دافئة في أحضان الجدّات حول مواقد الشّتاء وحكاياهنّ المنقولة عن.. وعن.. وعن… وصولًا إلى ألف عام وعام من الحبّ والحرب على هذه الأرض الحرام..
ونحن صدى مواويل العتابا والميجانا، وزغردة النّساء في الأعراس، وهدرة خبط الأقدام على إيقاع «المجوز»، وإلفة الأصابع المشبوكة في حلقات الدّبكة، وتحدّي أراجيز المحبّة بين أهل العريس وأهل العروس.
وفي جبّانات قرانا صار رميم عظام الموتى مكاحل عيون الزّمان، في القبور مسجاةٌ أصولنا وفروعنا وحنيننا ودموعنا ومواعيد انتظارنا إلى آخر مثوانا.
هذا جنوب موسى الصّدر الّذي أراده صخرة تتحطّم عليها مشاريع الصّهاينة، وجنوب حسن نصرلله الّذي أراده مقبرة دبّاباتكم وأوهامكم، وجنوب نبيه برّي حيث نزرع فيه أجسادنا لنقطف ثمار التّنمية والتّحرير والحرّيّة.
والجنوب، جنوب أبي ذرّ، الصّحابيّ العربيّ الأبيّ، آخر حصون العروبة والوطنيّة في مواجهة مشروع «إسرائيل الكبرى» الّتي تهدّد كلّ العرب لو كانوا يعلمون!
فلا غرابة أن ينتقموا منّا، من كلّ طفل غنّى وكلّ شيخ أنَّ، ومن اللّيمون والاقحوان والطّيّون وشقائق النّعمان والسّنديان والبيلسان، ومن النّحل والعصافير والفراشات، والبحر والنّهر والجداول والسّهول والتّلال والأودية والخلال..
اقتلونا، فلن تقتلوا المكان ولن تمسحوا الذّاكرة، وفينا رجال في الميدان ثابتون صامدون كتلال الجنوب وجباله، يرتّلون آيات النّصر بالصّواريخ والبنادق فهُم ملوك الأرض وليسوا بيادق في لعبة الأمم، ولو رجمهم بالإفك ألف وثن وصنم!
سنعود يا جنوب، ونحمل ذاكرتنا معنا، ونعيد ترتيبها وترتيلها وتعليمها لأجيالنا القادمة، سنعود يا جنوب مفعمين بالأمل ونبقى حصن فلسطين وحبّها، ومن الحبّ ما قتل..