وضع العدو الاسرائيلي أهدافاً معلنة لعدوانه على لبنان، لكن الأهداف غير المعلنة ليست كلها عسكرية واستراتيجية ومرتبطة بمشروع تغيير صورة الشرق الأوسط كما يجاهر ملك الحرب والمجازر بنيامين نتنياهو.
فإلى من لا يصدق بعد، أن هذا العدو يخوض جزءاً كبيراً من العدوان بخلفيات الحقد والتشفي والانتقام، ومعظمها نابع من سياسة عقائدية تلمودية ودينية تاريخيّة.
مدينة النبطية أكبر أنموذج في هذه المعركة يسلط الضوء على “ما وراء الأهداف العسكرية”.
لماذا “النبطية”؟
هذه المدينة تقع خلف خط الليطاني، وتبعد ٢٥ كيلومتراً عن الحدود وليست ضمن الجغرافيا التي زيحتها اسرائيل ضمن الكيلومترات التي أوهمت العالم أنها تريد تنظيفها “مما أسمته الإرهاب ” الذي يهدد أمنها وأمن سكان الشمال.
موقع “لبنان الكبير” عاد بالذاكرة مع إمام مدينة النبطية الشيخ عبد الحسين صادق إلى محطات تاريخية كبيرة دخلت في عمق العقل الاسرائيلي وفسرت هذا الحقد المتعاظم على المدينة والذي انعكس تدميراً بمئات الأطنان من المتفجرات وخصوصاً الأحياء القديمة والسوق وساحة الإمام الحسين عليه السلام.
يقول إمام النبطية: إن موقع المدينة المميز وحضورها الجنوبي اقتصادياً ثقافياً وعقائدياً ووجدانياً، وتنوع سكانها وارتباطهم ببعضهم البعض والمبادئ التي يحملونها جعلتها في عين العدوان الذي تشنه اسرائيل على لبنان . أول مدرسة رسمية في الجنوب شيدت في النبطية عام ١٨٨٢ وأسسها الزعيم رضا بك الصلح، والد رياض الصلح أول رئيس وزراء بعد استقلال لبنان عام 1943. واستمرت المدينة في التدرج التعليمي وتحولت إلى معلم ثقافي وتربوي للمنطقة برمتها وأصبحت مدرستها تعرف بأم المدارس وحملت اسم عبد اللطيف فياض آخر من تولى شؤونها، ومنها انطلق الإقبال على العلم ومن أبناء الجوار.
وفيها أيضاً أول مدرسة دينية أنشأها العلامة السيد حسين مكي عام ١٨٩٣ أواخر القرن التاسع عشر، وبلغ عدد طلابها ٣٠٠ طالب آنذاك. تسلمها من بعده الشيخ عبد الحسين صادق (والد جد إمام النبطية الحالي) في إدارة شؤونها والذي أنشأ أول حسينية عام 1909 في النبطية بل في بلاد الشام وهذا الأمر موثق لدى المراجع الدينية العليا، وتحولت الشعائر الدينية التي بدأت خجولة إلى شعائر واضحة وقوية ومسيرات تطوف الشوارع وأناشيد دخلت قلوب الأجيال وسرعان ما تحولت إلى ظاهرة عقائدية وجدانية وتفاعلت مع الأسر في النبطية التي التف حولها المجتمع النبطاني بعمق كبير. من هنا أطلق عليها أم الحسينيات ومنها تناسلت الحسينيات المعروفة في القرى والمدن الآن، وبالتزامن انطلقت أول مسرحية عام ١٩٠٩ كتبها الشيخ صادق وأتقنها الشيخ محمد تقي صادق وطوّر في نصوصها، والتي تحشد حالياً عشرات الألوف، ومن حينها بدأت تتحول الشعائر من شعائر محلية خاصة تتلى في البيوت أثناء الحكم العثماني إلى شعائر عامة ترددها بصورة جماعية حشود تجوب الشوارع. ومنذ ذلك الوقت عرف المجتمع النبطاني بميزته الحسينية، لذلك أطلق على المدينة “مدينة الحسين” و”كربلاء الثانية”.
والى بيت القصيد أي إلى المشهد التاريخي الذي تناقلته الأجيال وأدخل في صلب ثقافة المقاومة وطبع في أذهان العدو كوصمة عار، وأعطته دروساً في القوة والجرأة والبسالة في الوقوف بوجه الظالم، حتى الشهادة، آنذاك، يستذكر مفتي النبطية حين خرجت الجموع من الحسينية في مسيرات عامة تطوف الشوارع في العاشر من محرم في ١٦ أكتوبر عام ١٨٨٣، وعرفت آنذاك بـ “انتفاضة عاشوراء”، وسطروا ملحمة بوجه العدو عندما تصدى لدخولهم بالدبابات، التي حاولت اختراق الجموع من عشرات الألوف المتجمهرة حول مسرحية “واقعة الطف”، وهي في ذروة الوجدانية العميقة والمطلقة والمنحنية حزناً ودموعاً، فانطلقت في انتفاضة عملاقة ضد عناصر العدو الذين فروا تاركين وراءهم الملالات والدبابات التي استحوذت عليها الحشود وأحرقتهام وهذه الصور موثقة، إذ تحول هذا اليوم إلى يوم خالد بالنسبة الى تاريخ لبنان المقاوم وشوكة دامية حفرت في ذاكرة العدو.
ويضيف إمام النبطية: لعل هذه الضربات التي يشنها العدو اليوم على النبطية والتي لا مبرر عسكرياً لها من قصف تدميري ضخم وواسع هي انتقام لهذه الشوكة المحفورة عميقاً في ذاكرة الكيان الصهيوني، خصوصاً أنها أتت في التوقيت نفسه بحيث بدأت في ١٤ أكتوبر على السوق القديم ونفذت المجزرة الكبرى على بلدية النبطية في ١٦ وأتبعتها بتدمير للبيدر الذي انطلقت منه شرارة الانتفاضة.
وبألم شديد وصوت خفت تحت دمعة تعالت على الضعف والقهر يصف الشيخ صادق المجزرة الكبيرة التي ارتكبها العدو في وسط المدينة وقلبها النابض، ويقول: بيدر النبطية تلقى بصدره سهام الحقد بشموخ وعز وامتداد الجامع والحسينية وكأنه يسجل أن هذا هو الانتقام والتشفي من تلك الواقعة.
ولا ينسى أن السوق القديم والمعالم العمرانية للمدينة وتاريخها وتراثها ورجالاتها وعمقها الاقتصادي والخط الوطني لأبناء النبطية الذين واكبوا الحركات التحررية في العالم وساندوها بمظاهرات واحتجاجات ومنها ثورة عبد الناصر بوجه العدو الاسرائيلي، والبيوت العريقة ومنها بيت محمد بك الفضل أحد رجالات الاستقلال الذي وقع على العلم اللبناني… كلها أهداف صبّ العدو جام غضبه عليها وأزالها من الوجود لتغييب الذاكرة وفصل الجيل الحالي عن تاريخه وتراثه.
أما لماذا لم تفعلها اسرائيل في السابق خلال الحروب والضربات التي شنتها على لبنان والجنوب، فيجيب الشيخ صادق: ان العدوان الذي يشنه عدونا علينا اليوم هو بقيادة يمينية متطرفة انطلقت من خلفيات دينية وعقائدية و(بنيامين) نتنياهو عرابها ووضع كل رصيده السياسي في مشروع رفعه أمام العالم يتضمن خريطة اسرائيل الكبرى بالإصحاح المحرف، وهذه هي المرة الأولى التي تخاض فيها الحرب من هذا المعتقد الذي ورد فيه اسم لبنان بصورة واضحة “البرية ولبنان” حيث لم يذكر في الخريطة العبرية اليمينية سوى اسم لبنان وهذه إشارة لمن لا يريد أن يصدق بختم الشيخ صادق.
هذا هو الآن وجه الحرب.
ليندا مشلب – لبنان الكبير