في صفحات التاريخ المشرقة، تُكتب قصص الشعوب التي رفضت الذل والهوان، وقاومت بكل ما أوتيت من عزم وإيمان حتى انتزعت حريتها عنوة من براثن الاحتلال. هذه القصص ليست مجرد حكايات تُروى، بل هي إرثٌ إنساني يُعبّر عن كرامة الإنسان وقدرته على الوقوف أمام الظلم مهما بلغت التضحيات.
الجنوب، هذه الأرض التي امتزجت تربتها بدماء الشهداء وعرق المقاومين، لم يكن استثناءً لهذه القاعدة. حين حاول المحتل أن يُذل الجنوب وأن يُدمّر مدنه وقراه، ظنَّ أنَّ النار والحديد كفيلان بإخماد روح المقاومة وإذلال الناس. لكنَّ المحتل لم يدرك أن الأرض التي تنبت فيها أشجار الكرامة لا تُروّض، وأنَّ الإنسان الذي يؤمن بحقه لن يخضع حتى وإن انهارت الجدران على رأسه.
بعد الحرب والدمار، وفيما المدن مهدمة والبيوت مدمرة، بدأ الجنوبيون يعودون بالآلاف إلى أرضهم. لم ينتظروا إعادة الإعمار ولم يسألوا عن الدعم أو المساعدات، بل حملوا أدوات البناء بأيديهم، وأعادوا الحياة إلى منازلهم وقراهم، حتى لو كانت الجدران متصدعة والأبواب مخلَّعة. تلك العودة لم تكن فقط فعلًا مادّيًا، بل كانت رسالة رمزية للغاصب المحتل: نحن هنا باقون، وهذه الأرض التي حاولتم تدميرها لن تزول لأننا فيها.
إن النصر الذي تحقق لم يكن فقط نتيجة العمل العسكري أو التضحية الجسدية، بل كان انعكاسًا لإيمان عميق بعدالة القضية، ولصمود لا يُقهر أمام التحديات. لقد قاوم أهل الجنوب بأرواحهم، مؤمنين أن الظلم لا يدوم، وأنَّ النصر حليف من يصبر ويضحي. ورغم الألم وفقدان الأحبة، ظلوا متشبثين بحقهم في الحياة والكرامة.
وحيث أنه ليس هناك نصر دون تضحيات، فقد دفع الجنوب، بل ولبنان كله،ثمنًا باهظًا من دماء أبنائه. آلاف الشهداء الذين سقطوا في ساحات المعارك أو تحت الأنقاض، لم يموتوا عبثًا. بل كانوا الشموع التي أضاءت درب الحرية، وأثبتوا أنَّ الحرية ليست مجرد كلمة بل فعلٌ يستحق التضحية.
إن النصر الحقيقي لا يُقاس بحجم الخراب الذي تُعيد بناءه، بل بروح الصمود التي لا تنكسر، وبالإيمان الذي لا يهتز، وبقدرة الناس على النهوض بعد كل كبوة. وهذا ما فعله أهل الجنوب. لقد صنعوا من الألم قوة، ومن الدمار حياة، وأثبتوا أن الكرامة هي الأساس، وأنَّ الحق لا يُسترد إلا بالصبر والإيمان والعمل.
في النهاية، تبقى قصة الجنوب درسًا خالدًا لكل الشعوب التي تناضل من أجل حريتها. إنها رسالة تقول إن الأرض لا تُحرر بالسلاح فقط، بل بالإرادة، وإنَّ الشعوب التي تؤمن بحقها لا تُقهر، مهما بلغت التضحيات. هذا هو النصر العظيم: أن تقف شامخًا فوق ركام الحروب، وتُعيد بناء الحياة من جديد، بإيمان لا يهتز وإرادة لا تعرف الاستسلام.
الإعلاميةالدكتورة جمانة عياد