الإنفلاش السريع والسهل لتنظيم «هيئة تحرير الشام» («جبهة النصرة» سابقاً) وسيطرته في مدة وجيزة على مدينة حلب والتمدّد السريع في اتجاه حماه، عاد بالذاكرة إلى العام 2014، حين ذُهل العالم أمام انهيار مدينة الموصل في العراق والسيطرة السريعة لمجموعات «داعش» على مساحات شاسعة من العراق وسوريا، حيث أقام لبعض الوقت دولته المتطرفة بزعامة أبو بكر البغدادي.
وقد تكون وجوه التشابه في التمدّد السريع والسهل في مقابل انهيار أسرع للقوات النظامية، إلّا أنّ ثمة «قطباً مخفية» كثيرة تجعل من اجتياح حلب مختلفاً، ويخفي في مطاويه أسراراً قد لا تُكشف قريباً وربما لا تُكشف أبداً.
وأولى الملاحظات التي لا بدّ من التوقف عندها، هو في التوقيت. فعدا أنّ المرحلة التي تمرّ فيها المنطقة هي مرحلة إعادة صياغة الخريطة السياسية الجديدة، فإنّ الإنقضاض المفاجئ لمجموعات «النصرة» صودف تزامنه مع الإعلان عن وقف إطلاق النار في لبنان. ومن البديهي الإعتقاد أنّ هذا الهجوم المباغت لم يكن وليد ساعته، بل هو خضع لتخطيط وتحضير طويلين، وانتظر اللحظة الإقليمية المناسبة لتحديد ساعة الصفر، خصوصاً أنّه جاء بعد زهاء 8 سنوات من الهدوء الهش. وتبرير البعض بأنّ التوقيت لا علاقة له بأهداف العملية (تقويض نفوذ إيران) بل بظروف إنجاحها، بمعنى أن انشغال «حزب الله» بالمعارك القاسية في لبنان جعل ظروف العملية أسهل بعد سحب عناصر الحزب إلى لبنان. إلّا أنّ الوقائع تؤكّد عكس ذلك، وأنّ اختيار التوقيت جاء مريباً ومترافقاً عن قصد مع تداعيات انتهاء الحرب في لبنان. فالعملية بدأت مع تنفيذ عملية اغتيال الجنرال الإيراني كيومرت بورهاشمي المسؤول العسكري الأول عن المجموعات الحليفة لإيران في سوريا. وبعد ساعات وفي سياق التقدّم لمجموعات «النصرة» تمّ استهداف القنصلية الإيرانية في حلب، كذلك تمّ توزيع لمشاهد عن احتلال مقار لـ«حزب الله»، حيث كانت صور للسيد حسن نصرالله والسيد هاشم صفي الدين. وهذا ما يؤكّد أنّ أحد أهداف العملية تقويض نفوذ إيران أكثر منه نظام الأسد، وحيث لإيران حضور عسكري كبير في محيط حلب وريفها. ومن هذه الزاوية يمكن فهم ترابط التوقيت بين عملية حلب واتفاق وقف النار في لبنان، والذي ترتكز فلسفته على إخراج إيران من لبنان وقطع كل طرق الإمداد بينها وبين «حزب الله».
وفي السياق نفسه، توجّهت الأنظار في اتجاه تركيا وروسيا والولايات المتحدة الأميركية. فبالنسبة الى أنقرة فإنّ المنطق يقول إنّ من الصعب جداً الإقتناع بأنّ «جبهة النصرة» من الممكن أن تبادر إلى معركة عسكرية بهذا الحجم من دون تنسيق كامل مع تركيا، والتي تشكّل المنفذ الوحيد لها. وإنّ تركيا بدورها لن تُقدم في هذا الإتجاه من دون إبلاغ روسيا مسبقاً. وإذا كانت أنقرة ستستفيد من خلال تكريس منطقة نفوذ واسعة لها في شمال سوريا، فإنّ موسكو ستستفيد من خلال ملء الفراغ الإيراني، وحيث سيصبح الرئيس السوري مضطراً للإعتماد كلياً على موسكو. وهذا ما يفسّر الغارات الروسية، والتي بدت شكلية أكثر منها فعلية في اليومين الأولين، قبل أن تعود وتصبح فعلية بهدف الحدّ من توسع رقعة الهجوم وتجاوزه لحدوده في ظل الإنهيار الذي عانته قوات الجيش السوري. أي جاء التدخّل الفعلي لرسم الحدود الجغرافية للعملية.
أما بالنسبة إلى واشنطن، فكان مريباً ذلك الصمت الذي مارسته مع انطلاق العملية وحصول التقدّم السريع وصولاً الى يوم السبت، حين أعلن المتحدث بإسم مجلس الأمن القومي الاميركي نفيه أي دور لواشنطن في ما يحصل، وأضاف بشيء من المكر بأنّ رفض سوريا الإنخراط في عملية سياسية واعتمادها على روسيا وإيران خلق ظروف الإنهيار. وغالب الظن أنّ المقصود بكلامه إيران، أما حشر روسيا فهو من باب الصياغة الديبلوماسية. وفي معرض تأكيد نظريته، يلفت البعض إلى السلوك البارد لروسيا تجاه التطورات العسكرية التي تحصل بالقرب من قواعدها ووجودها العسكري. ولا يمكن تفسير ذلك فقط بسبب الحرب الدائرة في أوكرانيا، بل لأنّ موسكو وجدت بدورها الفرصة المناسبة لتقليص نفوذ إيران في سوريا والإستفادة من الواقع الجديد. وكذلك كان واضحاً أنّ موسكو لم تمارس ضغوطاً جدّية على أنقرة لإجبارها على مطالبة المجموعات المسلحة بإيقاف هجومها الواسع، لا بل بدت وكأنّها غير معنية بما يحصل، بدليل أنّ اتصال وزير الخارجية الروسي بنظيره التركي إقتصر على عبارات عامة وفضفاضة، لا تعكس انزعاجاً جدّياً مما يحصل.
أما إسرائيل فلم تكن بدورها بعيدة أبداً عمّا يحصل، لا بل فإنّ التركيز الإسرائيلي بلغ ذروته يوم السبت على رغم من أنّه يشكّل يوم عطلة يلتزم به عادة اليمين الديني الإسرائيلي. ويوم السبت الماضي وبينما كانت مجموعات النصرة تستولي على مواقع إيرانية في حلب، تعمّدت إسرائيل استهداف معابر حدودية بين لبنان وسوريا، والرسالة واضحة من نتنياهو الذي كان حذّر بشار الأسد قبل أيام معدودة من أنّه «يلعب بالنار». لا بل إن حركات تمرّد كانت بدأت بالظهور جنوب سوريا في درعا والسويداء قبل أن تعود وتتوقف بسرعة. غالب الظن أنّ هنالك من خشي من انهيارات قد تطاول النظام في دمشق، وهو ما ليس مطروحاً الآن. وجاء كلام نتنياهو واضحاً في هذا الإطار عندما تحدث عن تركيز الأنظار على تطور الأحداث وعن مشاورات مكثفة مع واشنطن خشية انهيار النظام.
ولا شك في أنّ القوى الأساسية ولا سيما منها روسيا، ستعمد إلى ضبط حدود انفلاش مجموعات «النصرة» من خلال تحديد جغرافيتها بالنار ومن خلال الطائرات الحربية. لكن ما حصل سيضع الأسد أمام خيارات صعبة وحاسمة وأمام تحولات في علاقات دمشق الإقليمية. فدمشق لا تملك ترف المناورة الواسعة، خصوصاً أنّه كان قد دار همس خلال الأسابيع الماضية عن تململ إيراني صامت من السلوك السوري تجاه منسوب الدعم البري لـ«حزب الله» والذي لم يكن مفتوحاً على غرار حرب العام 2006.
وكذلك تمّ رسم علامات استفهام حول «تسليم» الحامية العسكرية لمطار حلب إلى قوات «قسد» الموالية للقيادة العسكرية الأميركية. والمعروف أنّ طهران كانت تستخدم هذا المطار لنقل أسلحة الى «حزب الله»، وهو ما دفع إسرائيل إلى استهدافه مرّات عدة.
ووفق الإستنتاجات السريعة، فإنّ من الواضح أنّ عملية حلب تهدف لقطع طرق إمداد إيران لحزب الله عبر سوريا، لا بل لإضعاف التأثير الإيراني في سوريا إلى أدنى حدّ ممكن، ومن خلال اصطفاف إقليمي جديد لنظام موعود بإعادة إنعاشه والتطبيع معه.
وبعد أسابيع معدودة سيدخل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو مصرّ على إقفال ملف الشرق الأوسط سريعاً للتفرّغ لملفات أخرى، بعضها داخلي وملحّ. لذلك سيذهب إلى ممارسة سياسة الضغط الأقصى على إيران للوصول الى هدفين: الأول إخراج نفوذها من كامل ساحات «المحور»، والثاني بإنجاز تفاهم نووي بشروط جديدة، يسمح برفع العقوبات وتحرير أرصدة إيرانية، ولكن مع ضمان عدم توظيفها عسكرياً في دول الجوار. ومنذ الآن بدأت المؤسسات العسكرية الأميركية تتحدث عن توجّه صارم لإدارة ترامب لإغلاق كل منافذ تهريب النفط الإيراني عبر الأسواق السوداء وهي معروفة، وأيضاً لإيقاف «تسرّب» الدولار الأميركي الى إيران عبر أنظمة مصرفية ومالية في العراق ولبنان أيضاً. ووفق هذه العناوين يصبح «اجتياح» حلب أكثر وضوحاً، والأهم تلك التقطعات الدولية التي تشكّلت بهدف وراثة الإرث الإيراني في سوريا.
وانطلاقاً مما سبق يمكن القول إنّ اتفاق وقف النار في لبنان، والذي لا يزال يبدو هشاً، قد يجد في التطورات السورية عامل تحصين للمعادلة التي رُسمت في لبنان، والتي باتت تعطي لواشنطن الحضور الغالب على حساب تراجع النفوذ الإيراني فيه.
جوني منيّر – الجمهورية