تعاظمت معضلة السكن في لبنان بشكل غير مسبوق، متخذةً بُعدا أخلاقيا وإنسانيا خطيرا، وسط غياب الرقابة الرسمية، واستغلال ظروف الحرب التي اجبرت مئات الآلاف من المواطنين على التهجير القسري عن ديارهم، مع تصعيد العدوان “الإسرائيلي” على لبنان، وامتداد القصف إلى مناطق واسعة في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع، وجد المتأثرون أنفسهم مجبرين على مغادرة منازلهم ومقتنياتهم هربا من الموت، بحثا عن الأمان لأطفالهم وأسرهم، وغادروا تحت القصف مباشرة، تاركين خلفهم كل شيء، ليواجهوا في أماكن التهجير تحديات جديدة، أبرزها جنون الإيجارات وغياب الرقابة في هذا القطاع الحيوي.
“هستيريا” تأجير المنازل!
في سياق متصل، رصدت “الديار” حالات صادمة تعكس استفادة بعض أصحاب العقارات من ظروف التهجير. فمثلاً، اضطر أحد المواطنين الى دفع مبلغ 3000 دولار مسبقا لاستئجار شقة صغيرة في بيروت لمدة ثلاثة أشهر، بينما عمد مالك الشقة نفسه الى السكن في مركز إيواء، مستفيدا من أرباحه المادية على حساب المهجرين.
لذا، تتخطى هذه التجاوزات بشكل صارخ كل الضوابط، ما يفتح المجال أمام تساؤلات جدية: أين الدولة وأجهزتها الرقابية؟ ولماذا تُترك الفوضى لتتحكم في قطاع حساس كالإيجارات؟
المراكز الإيوائية… بدائل صعبة
وفي ظل الأوضاع المأسوية الحالية، وبعد سريان اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله و”إسرائيل”، بقي العديد من المهجرين الذين دُمرت منازلهم بالكامل في المدينة الرياضية في بيروت، باعتبارها أكبر مركز إيواء. لكن، يواجه هؤلاء مصيرا معقدا، إما البقاء في أماكن الاستضافة المؤقتة حتى إعادة بناء منازلهم، أو البحث عن سكن قريب لمتابعة عمليات الإصلاح والتشييد. لكن حتى في هذه الحالات، أصبحت أسعار الإيجارات عائقا كبيرا أمامهم. بلدية صيدا، على سبيل المثال، أصدرت قرارا بمنع إعادة تأجير المنازل التي كان يشغلها نازحون سوريون، مبررة ذلك بعودة هؤلاء إلى سوريا حيث الوضع أكثر أمانا لهم، ولإفساح المجال امام المواطنين الاصليين. ولكن، هل يعكس هذا القرار حلاً فعليًا للأزمة؟
أزمة وطنية بامتياز
الإيجارات كمؤشر لانعدام الرقابة
على خط متصل بهذا الواقع، بينت “الديار” في تحقيق سابق عن وصول أسعار الإيجارات إلى مستويات هستيرية، حيث تخطت في بعض الحالات 4500 دولار شهريا. وقد ضجت آنذاك مواقع التواصل الاجتماعي بمكالمة مسجلة نشرتها إحدى المواطنات التي تواصلت مع مكتب عقارات، بعدما تفاجأت بالأسعار وقالت بسخرية: “أريد منزلا على الأرض، لا في الجنة”! تلخص هذه العبارة حال اللبنانيين الذين يعانون من انعدام أي حماية أمام استغلال أصحاب العقارات.
اذ يبدو غياب الرقابة الرسمية جليا، لا سيما في ظل حكومة تصريف الأعمال، ما يثير التساؤل: إذا كانت الوزارات والإدارات الرسمية غائبة، فما دور البلديات؟ أليست هي الجهة الرسمية الأقرب إلى الناس، والتي يفترض بها متابعة المخالفات على الأرض؟
الخيارات محدودة والأسعار خيالية
لا شك ان المعاناة لا تقتصر على الأسعار المرتفعة فقط، بل تشمل شروطا مرهقة يفرضها أصحاب العقارات. على سبيل المثال، تُعرض شقة مفروشة في الجناح للإيجار مقابل 1700 دولار شهريا، مع اشتراط دفعات مسبقة تصل إلى 6 أشهر، إضافة إلى عمولة للسمسار.
في المقابل، تتراوح الأسعار في المناطق الشعبية، مثل حي ماضي وطريق صيدا القديمة وشارع الاسعد الاسعد، بين 500 و650 و700 دولار، لكنها تبقى بعيدة عن متناول العديد من الأسر المهجرة التي تعاني من ضائقة مالية.
يروي حسين قبيسي، أحد المهجرين الباحثين عن منزل، مأساته مع الأسعار “التعسفية” التي تبدأ من 600 دولار لشقق غير مفروشة، مشيرا إلى أنه وجد ستوديو “على العظم” بالقرب من المشرفية بسعر 900 دولار. من جهة أخرى، يشكو علي مراد، مهجر من النبطية، من ندرة الشقق المتوفرة، مشبها بحثه عن منزل بالأمر العسير.
ازمة أخلاقية لا اقتصادية!
من جانبها، تقول مصادر سياسية مطلعة ومتابعة لأوضاع المهجرين لـ “الديار” ان “أزمة الإيجارات في لبنان ليست مجرد مشكلة اقتصادية، بل هي انعكاس لأزمة أخلاقية أعمق تضرب صميم المجتمع اللبناني. في ظل هذه الفوضى، يُترك المواطن اللبناني وحده ليواجه طمع أصحاب العقارات وغياب أي منظومة تحمي حقوقه. لذلك، لا بد من تحرك سريع وجدي من الجهات المعنية، لوضع حد لهذه الزيادات التي تستغل ظروف الحرب والنزوح، وإعادة الاعتبار لمفهوم العدالة الاجتماعية، في وطن يئن تحت وطأة الأزمات”.
حلول ضبابية!
وتضيف المصادر “تشهد المناطق المحيطة بالبلدات المتأثرة بالعدوان “الإسرائيلي” مثل صيدا وجوار صور، أزمة سكن متفاقمة اتخذت أبعادا إنسانية وأخلاقية مقلقة بعد وقف إطلاق النار الأخير. هذه المحنة ليست وليدة اللحظة، لكنها اشتدت مع تهجير عشرات الآلاف من المواطنين، الذين فقدوا منازلهم جراء القصف والدمار، أو اضطروا إلى مغادرة مناطقهم بحثًا عن الأمان.
وبعد انتهاء الاشتباكات المسلحة، وجد هؤلاء المهجرون أنفسهم أمام تحدٍّ جديد، يتمثل في غلاء الإيجارات الجنوني، وغياب أي رقابة رسمية أو تدخل حكومي يضبط الأسعار، ويحمي حقوق المستأجرين”.
وتكشف المصادر انه “رغم الشروط التعجيزية والمبالغ الضخمة التي يطلبها أصحاب العقارات، الا ان المهجرين يقبلون على استئجار منازل في محيط الضاحية والجنوب والمناطق المحاذية لهما والبقاع الأوسط. كما علمت “الديار” ان عددا كبيرا من تجار الضاحية الجنوبية لبيروت تحدوا الظروف الصعبة، وقرروا المضي في حياتهم رغم الخسارة التي مُنيوا بها، وفتحوا فروعا جديدة على أوتوستراد الزلقا وجل الديب”.
خطة التعويضات جاهزة!
بدورها، سارعت بلدية برج البراجنة الى اصدار بيان رسمي بحضور المخاتير والوقف الجعفري، وعدد من المعنيين بملف التعويضات لأضرار حرب 2024. تضمن البيان تفاصيل المبالغ التي سيحصل عليها أصحاب المنازل المتضررة، سواء كانت مدمرة كليا أو متضررة جزئيا، بالإضافة إلى شروط وآليات صرف التعويضات.
وقد حدد البيان المبالغ التي يجب أن يتقاضاها أصحاب المنازل التي تعرضت للدمار الكامل أو الجزئي، مفصلا الأمور بالنسبة إلى السكن الأساسي أو الثانوي وحتى الإيجار القديم (ثانوي أو أساسي) أو المستأجر وفقا للإيجار الحالي (ثانوي أو أساسي) أو مقيم بالإعارة (ثانوي أو أساسي).
بالنسبة للمنازل التي تعرضت لأضرار جزئية، ستدفع مبالغ مخصصة لترميم الأضرار وفقا لتقارير المسح التي سيتم إعدادها. يُشترط على المتضررين الاحتفاظ بفواتير الصيانة، التي ستُصرف لاحقا، وفقا لجدول أسعار محدد من الجهات المعنية.
آلية العمل والتنفيذ
وفي الإطار، أعلنت البلدية تقسيم منطقة برج البراجنة إلى 11 مربعا، مع توزيع فرق من المهندسين المكلفين بالكشف على الأضرار، وإعداد التقارير اللازمة. وأكد رئيس البلدية السيد عاطف منصور “انه تم تشكيل اللجان وتحديد آلية العمل في برج البراجنة من اجل إعادة الاعمار، والخطة التي وضعت مقسمة الى 3 مجموعات”.
وكانت أوضحت البلدية في وقت سابق انها ستدعم فرق المسح بالتنسيق مع الشُّعَب المعنية في القطاع، لإنجاز المهام المطلوبة بأسرع وقت ممكن.
ومن المقرر تنفيذ هذه الإجراءات اعتبارا من 3 ديسمبر 2024، حيث ستبدأ الزيارات الميدانية لتقييم الأضرار، ومن ثم السماح مباشرة للمتضررين بالبدء بعمليات الترميم بعد استيفاء الشروط.
تعاون لإنجاز المهمة
وقد أكدت البلدية أنها ستعمل بالتنسيق مع جميع الجهات المعنية، لتسريع عملية التعويضات وضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها في الوقت المحدد.
التعويضات: بصيص أمل أم حل مؤقت؟
في ظل هذه الأزمة، بدأت لجان الكشف على الأضرار التابعة لحزب الله أيضا عملها في المناطق المتضررة في كل من كفرجوز والنبطية ومناطق اخرى، وأعلنت عن آلية لتعويض المتضررين. تشمل التعويضات بدلات إيجار تصل إلى 6 آلاف دولار سنويا للعائلات التي فقدت منازلها، بما في ذلك جميع المتضررين، حتى وان كانت الاضرار مجرد تصليح باب او تركيب زجاج.
ندى عبد الرزاق – الديار