يصادف السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 الذكرى الـ80 لتوقيع اتفاق الطيران المدني في الولايات المتحدة الأميركية، الذي شكل نقطة محورية وحاسمة في تطوير نظام الطيران المدني العالمي لمصلحة الدول كافة خلال العقود الماضية.
ومنذ عام 1944 وضعت المعايير التي ساعدت على ازدهار هذا المجال الجوهري في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للدول. فخلال هذا العام أكد مجلس منظمة الطيران المدني الدولي مبدأ الاستدامة من أجل أجواء آمنة ولمستقبل آمن لـ80 عاماً مقبلة عبر الحد من البصمة الكربونية للطيران والحرص على السعي إلى تحقيق انبعاثات كربونية صافية صفرية بحلول عام 2025.
أما في لبنان، ففي اليوم العالمي للطيران المدني لا يمكن إلا أن نسلط الضوء على التجربة الفريدة التي اختبرها الطيران المدني.
تجربة طيران فريدة
خلال أكثر من شهرين استمرت الطائرات المدنية في نقل المسافرين تحت القصف، وعلى رغم الأخطار الكبيرة المرافقة لتجربة الطيران فليست مشاهد الطائرات التي تقلع وتهبط بين الغارات من تلك التي قد تتكرر أو يمكن رؤيتها في أماكن كثيرة من العالم. صحيح أن جميع شركات الطيران الأجنبية ألغت رحلاتها من وإلى بيروت في ظل التصعيد الحاصل خلال الحرب، لكن بقيت شركة “طيران الشرق الأوسط” مستمرة في تسيير رحلاتها اليومية، وبقيت وسيلة النقل الجوي الوحيدة التي تربط لبنان بالعالم لنقل المسافرين من وإلى البلاد.
حول هذه التجربة أشار مستشار رئيس مجلس إدارة “طيران الشرق الأوسط” الكابتن محمد عزيز إلى أن شركة “طيران الشرق الأوسط” واجهت تحديات كثيرة في حروب سابقة مرت على لبنان منذ تاريخ تأسيسها عام 1945. فخلال عام 1948 ضربت إسرائيل الأسطول الجوي اللبناني ومن ضمنه نسبة 80 في المئة من أسطول “طيران الشرق الأوسط”. وكانت إدارة الشركة آنذاك لجأت إلى تأمين ضد الحروب من دون أن تتصور أنه من الممكن تعرضها إلى ضربة مماثلة في الحرب.
وفي عام 1962 أعيد تجديد الأسطول، ثم عادت واندلعت الحرب عام 1972 وأقفل المطار أيضاً. ودامت الحرب الأهلية 15 عاماً، وتكررت التجربة أيضاً في حرب 2006. من ثم فإن للشركة تاريخاً حافلاً في التعامل مع الحروب وإدارة الأزمات وفق ما يوضحه عزيز، الذي يضيف “عندما بدأت الحرب في غزة وكانت لا تزال محدودة أولاً في جنوب لبنان، سارعت الشركة إلى تقييم الأخطار وخففت من عدد الطائرات الموجودة على أرض المطار خشية أن تتعرض لأي أذى، واتخذت عندها كل الإجراءات اللازمة لحماية الطائرات من أي اعتداء محتمل تجنباً لخسائر كبرى يصعب تحملها”.
ويتابع “بدأنا اتخاذ الإجراءات منذ أواخر شهر سبتمبر (أيلول)، واستطعناً أن نبني علاقة ثقة مع شركات التأمين. فظهر بصورة واضحة من الإجراءات التي نتخذها أننا نعمل بصورة منهجية ودقيقة ونعرف تماماً ما قد يحصل ولا نعمل أبداً بطريقة عشوائية. وحصل تبادل للمعلومات بيننا، خصوصاً أننا نملك معلومات من مصادرنا الخاصة تساعدنا على تقييم الأخطار بصورة سليمة. وكان الوضع يتطلب اتخاذ قرارات سليمة وحاسمة، فقررنا أنا نقاوم عبر الاستمرار بفتح المجال الجوي للناس للسفر والإسهام بصورة إيجابية في النمو الاقتصادي”.
تحديات كثيرة في مثل هذه الظروف التي تبدو فيها تجربة الطيران محفوفة بالأخطار، ومن الطبيعي أن تسيطر مشاعر الخوف على الطيارين وطاقم الطائرة خصوصاً أن الخطر لا يتعلق بهم وحدهم بل يتحملون مسؤولية ركاب الطائرة ليوصلوهم إلى بر الأمان. كما أن كلاً منهم يفكر في عائلته التي تركها وراءه ويتساءل ما إذا كان سيقابلها مجدداً بعد رحلته.
ويؤكد عزيز أن الطيارين واجهوا مشاعر الرهبة أولاً مع اتخاذ قرار الاستمرار في تسيير الرحلات على رغم القصف والغارات، لكن لم يتردد أي منهم في القيام بعمله ولم يأت أي اعتراض أو تراجع على رغم أنهم لم يكونوا قد اختبروا تجربة مماثلة خلال أي وقت سابق.
واستعداداً لتلك المرحلة الصعبة كان هناك تأهيل للملاجئ في المطار، وأجريت عمليات إخلاء لزيادة الجهوزية في حال حصول أي طارئ سواء كان من الممكن أن تكون هناك حاجة إليها أو لا. وعلى رغم التردد للوهلة الأولى، عاد الكل متقبلاً خوض التجربة والاستمرار في العمل، وكان هناك تفان من قبل جميع العاملين في المطار وعلى متن الطائرات. ومنهم من خسروا منازلهم واستمروا في العمل بعد تأمين أماكن للإقامة داخلها.
الواقع أكثر صعوبة
قد تبدو مشاهد الغارات مرعبة بالفعل لكل من رآها على وسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام. ويمكن توقع ما قد يكون عليه الواقع بالنسبة إلى من يعيش هذه التجربة عن قرب إذا كانت المشاهد مثيرة للرهبة بهذه الصورة.
ويوضح عزيز أنه على رغم هول المشاهد لم يكن طاقم الطائرة والركاب يتعرضون لأخطار فعلية، فجميع الغارات كانت تسقط قبل هبوط الطائرة أو بعد إقلاعها، ولم يسقط أي منها خلال الوقت نفسه بصورة تعرض حياة أي فرد للخطر، وإلا لما اتخذ قرار الاستمرار في تسيير الرحلات أثناء ظروف الحرب، إذ كان هناك تعهد للأميركيين والفرنسيين من قبل الإسرائيليين في ما يشبه الـgentleman agreement بعدم التعرض للمطار بأي صورة من الصور، وكانت الشركة دوماً على علم بالغارات في محيط المطار. حتى إنه في إحدى المرات أُبلغت الدولة التي أبلغت بدورها جهاز أمن المطار عندما لم يكن هناك تحذير معلن للغارة التي ستسقط قذائفها في محيط المطار. وكانت هناك تطمينات من قبل السفارات التي أكدت أنه لن يتم الاقتراب من المطار ومن الطائرات. وانطلاقاً من ذلك، كانت هناك عملية مدروسة في لحظات إقلاع وهبوط الطائرات قبل وبعد الغارات بإشراف وتوجيه دقيق من برج المراقبة.
وعلى رغم الظروف التي غلب عليها القلق والخوف بسبب رهبة الحرب وما يرافقها من ظروف، كانت هناك حال اطمئنان على متن الطائرة. ويشير عزيز إلى أنه كان يسافر مع الطاقم أحياناً وابنه الطيار أيضاً مما كان يبعث مشاعر الاطمئنان والراحة في النفوس. وفي النهاية لم يرفض أي من الطيارين خوض التجربة بل عدها الكل بمثابة تحد، وكانوا مهنيين للغاية في أدائهم لواجبهم في ظل هذه الظروف الصعبة.
ويتابع “كان هناك تنسيق متواصل مع برج المراقبة الذي استمر العاملون فيه بالقيام بعملهم وهم يتعرضون يومياً للمخاطر، وهم بالنسبة إلينا الجندي المجهول على أرض المطار. وكل من عمل في المطار قام بواجبه بصورة مثلى”.
بين الخوف والمسؤولية
من جهته يتحدث الكابتن آلان ديب عن هذه التجربة الخاصة التي عاشها في ظروف الحرب وأثناء قيادة الطائرة تحت القصف والغارات، مشيراً إلى أن مشاعر الخوف والقلق طبيعية في هذه الظروف الصعبة وتؤثر في الكل، لكن هذه المشاعر ليست مستجدة بل موجودة منذ أكثر من عام، والكل كان في حال جهوزية تامة واستعداد لأن أية رحلة من لبنان يمكن ألا يعود طاقمها إلى أهله وعائلته، وهذا ما كان يولد حال توتر صعبة الوصف بين الطيارين والطاقم. أما مع توسع العدوان واشتداد الاشتباكات فأول ما كان هناك هو الحرص على أن يكون كل طيار صافي الذهن أثناء قيامه بعمله، فالقدرة على التركيز والصفاء الذهني من أهم العناصر التي تلعب دوراً للوصول بالطائرة إلى بر الأمان، وجميع الطيارين يدركون ذلك. لذا تواصلت النقابة مع جميع الطيارين لتأمين مساكن لمن يحتاج إليها والاطمئنان عليهم، وتأمين وسائل نقل آمنة لهم حتى لا يتعرض أي منهم للخطر ويتمكن كل طيار من التركيز على مهمته بدلاً من التركيز على هذه التفاصيل التي يمكن أن تثير التوتر.
ويشير ديب إلى أن “رحلة الطيار لا تبدأ منذ لحظة الإقلاع بل قبل ساعات منها. لذلك يجب أن يكون مرتاحاً ونام جيداً ولا يعاني القلق أو التوتر. والذي يعيش في مناطق قريبة من مناطق الاشتباكات ولا ينام ليلاً لا يكون قادراً حكماً على قيادة الطائرة بأمان، لذلك انتقل بعض من أماكن إقامتهم لدى أقاربهم إلى مناطق أخرى ليتمكنوا من التركيز في رحلاتهم”.
ويتابع “منذ أن نشأ الطيران المدني ونحن نعيش مع الأزمات، وورثنا هذه المسؤولية عمن سبقونا ممن عاشوا تجارب سابقة في ظروف الحرب. نحن داخل لبنان في جهوزية تامة واستعداد لمثل هذه الظروف في الطيران. علماً أن الشركة لا ترغمنا على الاستمرار في القيام بهذا العمل، بل قمنا كلنا بذلك بكامل إرادتنا نظراً إلى العلاقة الوطيدة التي تربط الطيار بعمله وشركته والمسافرين والمجتمع. إنها مسؤولية تقع على عاتقنا. وحتى في الثورة عندما كانت الطرقات مقطوعة كنا نتدبر أمورنا لنصل مهما كان الثمن إلى المطار للقيام برحلاتنا بغض النظر عن المردود المادي.
ويستطرد “حتى في ظل جائحة كورونا لم يتردد كامل الطاقم يوماً، فكنا نحجر أنفسنا لأسبوعين قبل أن نعود إلى عائلاتنا ونتابع عملنا من دون تردد. والأصعب بعد ما نتعرض له من أخطار على الطرقات هو العودة إلى منازلنا. هذه العوامل كلها تزيد من معدلات التوتر على الطيار الذي يكون في مرحلة دقيقة، خصوصاً أن هناك مسؤولية ملقاة على عاتق الكل. وقد يكون هذا ما يميز الطيار اللبناني عن أي طيار آخر، وليس سهلاً أن يقوم بعمله بهذه الكفاءة في مثل هذه الظروف وتحت هذه الضغوط التي لا يدركها إلا من يمر بها”.
ويوضح ديب “صحيح أن الصور التي تم تناقلها ركزت على لحظات الهبوط والإقلاع، لكن في الواقع تستمر مشاعر القلق والخوف في جميع أجواء المنطقة في ظل التشويش على أجهزة (جي بي أس) وأجهزة الملاحة. وفي بداية الحرب كانت هناك طائرات تصل إليها إنذارات كاذبة بسبب هذا التشويش فتغادر من دون أن تتمكن من الهبوط في مطار بيروت. وإضافة إلى قلق الطيارين وطاقم الطائرة حيال الغارات والقصف ثمة ضغوط كثيرة يتعرضون لها في الرحلة، ولابد من مواجهتها كلها”.
عندما يغلب الشغف
في شأن هذه الضغوط التي يتعرض لها الطيارون وطاقم الطائرة مع استمرارهم في القيام بعملهم أثناء ظروف الحرب، أكدت الاختصاصية في المعالجة النفسية كارول سعادة أن مستويات الضغط النفسي تكون عالية جداً في مثل هذه الظروف، خصوصاً أن الإنسان يكون إزاء هذه الحال في خطر، وهناك مسؤولية ملقاة على عاتقه في الرحلة ويترجم ذلك عادة بردود فعل مختلفة، فإما أن يواجه ويحارب أو يشعر بالجمود أو أن يهرب.
وبالنسبة إلى الطيارين اللبنانيين يبدو واضحاً بحسب كارول أن ردة الفعل كانت بالمواجهة بجرأة وقبول التحدي، لكن هذا قد ينتج منه لدى بعضهم حال من الإرهاق خلال وقت لاحق بعد انقضاء هذه المرحلة. وهذا يرتبط بشخصية الإنسان وآليته الدفاعية وكيفية تأقلمه مع الضغط النفسي. ففي ظروف مماثلة ترتفع إلى حد كبير مستويات هرمونات الأدرينالين والكورتيزول، ومن الممكن أن يؤدي ذلك لدى بعض إلى صعوبات وحال قلق حادة. لكن يبدو واضحاً أن تأدية الرسالة والقيام بالواجب والشغف في العمل كان أقوى فقبلوا التحدي ونجحوا فيه. لكن لا يمكن أن ننكر أنه ليس الكل قادراً على تحمل هذا الكم الهائل من الضغوط. قد يلعب التدريب دوراً إضافة إلى الكفاءة، لكن ثمة حاجة إلى صلابة نفسية لتجنب الوقوع في الاضطرابات النفسية واضطراب ما بعد الصدمة. فأحياناً هذا الخطر الكبير الذي يواجهه الإنسان قد يؤدي إلى صدمة وقلق ويواجه كوابيس ليلية بصورة تمنعه من تكرار التجربة أو خوض أي اختبار له علاقة بالموضوع.
كارين اليان ضاهر – اندبندنت