الـ٢ مليار التي أعلن حاكم مصرف لبنان في مقابلة على قناة «الحرة» انها «قابلة للاستخدام» دون المس بالاحتياطي، جاءت «مفاجأة» (لا سيما ان سلامة كان قد أعلن قبل فترة ان ليس لدى مصرف لبنان أكثر من ٨٠٠ مليون دولار قابلة للاستخدام)، وما زالت حتى الآن بين أخذ ورد حول مصدرها حتى من قبل الاختصاصيين الذين اختلفت لديهم التفسيرات والتحليلات. فمن قائل ان حاكم المركزي كان يحتفظ بهذا السر(!) كي يعلنه كمفاجأة سارة في وقت الشدة، وقد جاء وقت الشدة وأعلنه. وهذا التفسير لا يصلح، لان مثل هذه الأمور لا يمكن التعامل بها على طريقة الـ hide and seek أو ما يسمى بـ «الغميضة»! ومن قائل ان هذه الـ٢ مليار دولار هي من أصل الزيادات التي ألزم بها مصرف لبنان المصارف أن تضيفه الى رساميلها بنسبة ٢٠%. أو من نسبة الـ١٥ و٣٠% من الودائع التي حث مصرف لبنان المصارف على استعادتها الى لبنان، أو من نسبة الـ٣% من الودائع التي طلب مصرف لبنان من المصارف أن تغذي بها حساباتها بالعملة الأجنبية لدى المصارف المراسلة في الخارج، ومن قائل ان هذا المبلغ كما رأى البعض هو حصيلة «لعبة أرانب» على طريقة السحرة في نوع جديد من «الهندسات المالية» أو أنه «هبة» نزلت الى لبنان دون تحديد أسبابها ومصدرها، الى ما هنالك من التحليلات أو التخيّلات!
فيما الرأي الأقرب الى واقع الحال ان مصرف لبنان يقتطع نقدا من احتياطي الدولار الالزامي نسبة ١٥% من أي انخفاض في قيمة ودائع المصارف بالدولار. وقد انخفضت هذه الودائع أخيرا من حوالي ١١٥ مليار دولار الى ١٠٧ مليار دولار أي بفارق ٨ مليار دولار مما يسمح لمصرف لبنان أن يقتطع نسبة الـ١٥% من الـ٨ ملياردولار، أي مبلغ 1,2 مليار دولار متى أضيفت الى الـ٨٠٠ مليون دولار الموجودة أصلا لديه يصبح الاجمالي «القابل للاستخدام حسب تعبير حاكم مصرف لبنان ٢ مليار دولار هو المبلغ الذي دارت التحليلات والتخيلات حول مصدره ووصف بأنه «مفاجأة» جاءت «في غفلة» أو «على حين بغتة»!
زمن المفاجآت!
وما دمنا في هذا الحديث من المفيد التذكير بواحدة من «المفاجآت» المالية المثيرة والاستثنائية التي شهدها لبنان قبل حوالي ٤٠ عاما. ففي جلسة مع الدكتور حسين كنعان، النائب الأول السابق لحاكم مصرف لبنان، روى لنا انه خلال فترة حاكمية لدكتور أدمون نعيم ضاقت السبل عندما وصل الاحتياطي النقدي لدى مصرف لبنان الى ما تحت الخط الأحمر. وكان الطريق الوحيد المفتوح يؤدي الى واشنطن التي تخرج فيها الدكتور كنعان من جامعة جورح تاون. فوجد الدكتور نعيم ان الحل المحتمل تكليفه على رأس وفد من مصرف لبنان للسفر اليها لجس نبض المسؤولين حول إمكانية الحصول على دعم عاجل. وبالفعل سافر الوفد الى واشنطن واجتمع مع الجهات الأميركية المختصة شارحا حالة الطوارئ المالية التي يعيشها لبنان، وكانت النتيجة ان المسؤولين الأميركيين أبلغوا الوفد اللبناني عدم توافر آليات تقنية سريعة تسمح حتى مجرد البحث في الموضوع. وعاد الوفد اللبناني يومها الى بيروت دون نتيجة، واشتدت الأزمة ولكن لفترة وجيزة حصل بعدها اختراق بشكل غير متوقع في طلب خليجي متسارع ومتدرج لشراء السندات اللبنانية، ساهم في كسر حالة الجمود، وبعكس الصورة التي تظهر الآن في عقوبات تشبه الحظر الأميركي ووضع سياسي داخلي يؤدي الى ابتعاد خليجي، وباب صندوق دولي مقفل بانتظار اصلاح مالي واداري، ونظام ينهار الى لا حل في المدى المنظور ولا قرار!
والحل الآن حتى للمدى المتوسط أو البعيد يبدأ وعبر قلب الصورة بشكل عكسي، في اجراءات إصلاحية داخلية، وسياسة خارجية تعيد لبنان الى علاقات عربية ودولية عملانية وواقعية تأخذ بعين الاعتبار حاجاته ومتطلباته المالية والمعيشية، ودوره الرائد في مختلف الحقول الاقتصادية والثقافية أمام تحديات طارئة من تطبيع منافس تتسع دائرته ودوره على مدى المنطقة العربية لا تنفع في مواجهته سياسات تأجيل وفذلكات تعليل بديلا عن الحسم والتنفيذ في وضع صارخ بأرقام مخيفة من دين عام قياسي عالمي على باب الـ١٠٠ مليار، الى نمو يتدهور باستمرار الى أصفار، الى جفاف في الاحتياطات وعجز هائل يتخطى الـ١٠ مليارات دولار سنويا في ميزان المدفوعات وارتفاع متواصل في معدلات البطالة والعوز والفقر والغلاء والوباء والبلاء وشلل حكومي واحتقان طائفي – مذهبي في نظام سياسي فاقد الاتصال مفكك الأوصال لا يفرز سوى أزمات تعصى عليها التسويات والحلول وتأخذ شعبا كاملا… الى المجهول!