الخميس, يناير 9
Banner

لبـنان يدخل الحقبة الجديدة

إذا لم تحصل مفاجآت غير محسوبة فمن المفترض أن يخطو لبنان اليوم أولى خطواته في اتجاه الحقبة الجديدة. وكانت المنطقة قد باشرت دخولها في هذه الحقبة مع التغييرات الكبيرة التي طاولت سوريا، وأدّت إلى كسر المعادلة التي كانت قائمة سابقاً بكل خطوطها الحمر التي كانت موضوعة.

وبخلاف الجدال السطحي الذي دار طوال المرحلة الماضية حول ملف رئاسة الجمهورية، وحيث تمّت مقاربته من زاوية المفاضلة الإسمية، فإنّ الرؤيا الدولية كانت تتعاطى مع هذا الإستحقاق من زاوية إدخال لبنان في حقبة جديدة وضمن مشروع إعادة رسم الخريطة السياسية الجديدة للمنطقة. ووفق هذا المنظار، وعطفاً على التعقيدات والتشابكات الداخلية، والتي دفعت في اتجاه الفراغ الرئاسي، تمّ تشكيل اللجنة الدولية الخماسية، وحيث تولّى سفراؤها في لبنان متابعة هذا الملف. وجاءت البيانات المعدودة للخماسية معبّرة بنحو كافٍ عن المهمّة المطلوبة من الرئيس العتيد. ففي بلد نخره الفساد وأودى به إلى الإفلاس، وتشابكت في داخله مصالح الدول الإقليمية ومشاريعها، ما جعل ساحته ساحة حروب وتصفية حسابات وكوارث، كان لا بدّ من نهج رئاسي جديد يشكّل تحطيماً للنمط القائم. لكن واستناداً إلى دروس الماضي، كان من المفترض فصل الملف الإقليمي وبالتالي ملف الحرب في الجنوب عن أي مقايضة مع الملف السياسي الداخلي إنطلاقاً من الملف الرئاسي. لذلك جرى التكرار مرّات عدة بأنّ مهمّة سفراء الخماسية مخصّصة للملف الرئاسي، وأنّ مهمّة الموفد الأميركي آموس هوكشتاين محدّدة بالملف الجنوبي ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالملف الرئاسي.

ومن هنا كان الهدف بعدم الخلط بين التأثيرات الإقليمية القائمة في الجنوب وبين الحقبة السياسية الجديدة التي ستنطلق مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

وفي هذا الوقت كانت السطحية هي السائدة على المستوى الداخلي اللبناني في طريقة التعاطي مع الملف الرئاسي، ولو أنّ بعض المراقبين لم يضعوا هذه «الوفرة» في التداول بالأسماء فقط من زاوية السطحية بل أيضاً من باب «الخبث» والحط من هالة الموقع.

في هذا الوقت كانت المنطقة تغرق في أتون الحرب، والتي سرعان ما طاولت حممها لبنان لتزيد من مآسيه، ولا سيما منها الحياتية والإقتصادية، خصوصاً تلك القرى والبلدات التي دُمّرت بنحو كامل أو جزئي. كان واضحاً أنّ لبنان بات في حاجة ماسّة إلى الدعم المالي الخليجي والذي تشكّل قاطرته المملكة العربية السعودية.

وثمة جانب آخر أكثر أهمية. فالكلام الذي ساد منذ حصول الفراغ الرئاسي بأنّ السعودية «الجديدة» لم يعد لبنان يهمّها ولا هو موجود على لائحة إهتماماتها كان كلاماً غير واقعي. فالسعودية كانت تتابع ما يحصل في لبنان وسوريا بنحو متواصل ولكن من بعيد، في انتظار أن تصبح الظروف ملائمة للرؤيا التي تريدها.

وفي لقاء عُقد في عاصمة أوروبية وحضرها السفير السعودي المعتمد لديها، والذي يُعتبر أحد أبرز أعضاء السلك الديبلوماسي السعودي، قال السفير أمام صديقه السياسي اللبناني: «لا تصدّق أننا لسنا مهتمين بلبنان، لا بل على العكس فإنّ لبنان كما سوريا هما في صلب اهتماماتنا، لكننا لا نُظهر ذلك لأسباب مختلفة لها علاقة بحسابات المنطقة».

كذلك فإنّ ملك الأردن والذي تابع بدقّة وأحياناً كثيرة بقلق تطور الأحداث في لبنان، لم يكن يتردّد في الإعراب عن ضرورة احتضان الوضع اللبناني، كون انزلاقه إلى متاهات بشعة سينعكس فوراً على الإستقرار الداخلي الأردني ومن ثم على استقرار مصر.

ولكن وبعد نتائج الحرب المدمّرة على لبنان، وبعد صوغ إتفاق وقف إطلاق النار بالصيغة التي تمّ اعتمادها، والأهم بعد إخراج إيران من سوريا، بدا أنّ لبنان دخل مرحلة جديدة. صحيح أنّ أحد عناوين الواقع الجديد يقضي بتخفيف التأثير الإقليمي لإيران إلى الحّد الأدنى، إلّا أنّ ذلك لا يعني بأي شكل من الأشكال محاصرة أو استهداف الطائفة الشيعية. ووفق الظروف الجديدة، بات من باب الواقعية الإستنتاج بأنّ المرجعية الإقليمية للبنان أصبحت سعودية، بعد أن كانت إيرانية وقبلها سورية. لكن هذه المرجعية الإقليمية الجديدة والتي تحمل بيدها باب الإنقاذ الإقتصادي للبنان، ستكون مختلفة تماماً عن المفهومين اللذين سبقاها.

ففي لبنان هنالك أيضاً حضور أميركي عسكري مباشر من خلال لجنة مراقبة وقف النار في الجنوب وفق ما نص عليه الإتفاق، وحيث سيعاون رئيس اللجنة كثير من الضباط والخبراء المتخصصين الأميركيين. وهنالك أيضاً الحضور الأميركي الناعم من خلال الأمم المتحدة عبر صندوق النقد الدولي، والذي سيشرف على عملية إعادة بناء مؤسسات الدولة اللبنانية والتي نخرها الفساد وأصبحت مهترئة بكاملها. وكذلك هنالك المتابعة الأوروبية من خلال فرنسا.

وبالتالي فإنّ اختيار رئيس جديد للجمهورية كان لا بدّ أن يخضع لكل هذه المعايير التي سبقت، وليس أبداً كما تهافت البعض في اتجاهه.

هو رئيس يجب أن يضمن احترام «اتفاق الطائف»، والسهر على تطبيق اتفاق وقف النار في الجنوب ومتفرعاته كما جاء في الاتفاقات التي عُقدت، وأن يكون قد خضع لاختبارات النزاهة والصلابة، وأيضاً أن لا يخلط بين مسؤولياته وطموحاته ونزواته الشخصية. وتلاحقت الإختبارات القاسية للعماد جوزف عون منذ تسلّمه مهماته، وخصوصاً منذ العام 2019 وما تلاه.

وعلى سبيل المثال، كان لافتاً أن تعتزم إدارة الرئيس جو بايدن وقبل أيام معدودة من رحيلها، على تحويل 95 مليون دولار من المساعدات العسكرية كانت مخصصة لمصر لمصلحة الجيش اللبناني. صحيح أنّها إشارة سلبية لمصر لكنها إشارة معبّرة جداً للمؤسسة العسكرية اللبنانية. وكانت العواصم الغربية تتابع بإعجاب ما يصلها من أصداء حول قيام متمولين لبنانيين بالتبرّع بأموال نقدية وبنحو يومي لقيادة الجيش اللبناني وطريقة إدارة هذه الأموال بنحو شفاف من خلال حساب في مصرف لبنان، والتي تخطّت المئة مليون دولار كما تقول مصادر مصرفية. وذلك في وقت تبدو ثقة اللبنانيين معدومة بالطاقم السياسي الحاكم، وهنالك وادٍ سحيق يفصل بين اللبنانيين ومسؤوليهم، وهو ما يفسّر نزيف الهجرة اليومي للشباب اللبناني.

ولكن المجتمع الدولي يدرك جيداً أنّ السلطة ليست بيد رئيس الجمهورية، بل إنّه يشكّل المدخل إليها. لذلك ساد بحث حول الرئيس المقبل للحكومة، والذي سيكون نجيب ميقاتي إنسجاماً مع رغبة الرئيس نبيه بري. لكن ثمة تمسكاً برمي كل ما تمّ إدخاله من بدع غير دستورية على آلية الحكم في لبنان، بدءاً مما أفرزه إتفاق الدوحة، كمثل حصول كل تجمّع من أربعة نواب على مقعد وزاري… كذلك الذهاب إلى بدء تطبيق الإصلاحات المطلوبة وبنحو شفاف وبالتعاون مع المؤسسات الدولية.

أما الإصلاحات السياسية فستخضع لنقاش مستفيض للمجلس النيابي المقبل، والذي ستنبثق منه حكومة جديدة تترأسها شخصية جديدة. وغالب الظن أنّ عملية الإنعاش الإقتصادي وضخ المساعدات في الشرايين اللبنانية سيظهران في وضوح وبنحو ملموس مع حكومة ما بعد الإنتخابات، وبعدما تكون الحكومة الأولى قد تولّت وضع المداميك المطلوبة لانطلاق المسيرة الجديدة.

هي الحقبة الجديدة التي ستبدأ خطواتها الأولى مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية، والذي من المفترض أن تبدأ اليوم إذا لم تظهر مفاجآت غير محسوبة أو متوقعة.

 جوني منيّر – الجمهورية

Leave A Reply