رغم أنّ رئيس الجمهورية جوزف عون آتٍ إلى الرئاسة من مؤسسة عامة هي الجيش اللبناني، ورغم معرفته بمعاناة الموظفين، المدنيين منهم والعسكريين، خلال سنوات الأزمة بسبب تهاوي قيمة رواتبهم حتى انخفضت إلى 20 دولاراً في مرحلة من المراحل، إلا أنه ضمّن خطاب القسم الذي ألقاه أمام مجلس النواب، مشروعاً لإعادة هيكلة القطاع العام و«ترشيقه» و«لامركزيته»، أي إنه تبنّى أفكار السنيورة ومشروع البنك الدولي لتقليص حجم القطاع العام… إنما يبدو أنه لم يكن ملتفتاً إلى أن نسبة الشغور في الإدارة والمؤسسات العامة والبلديات الكبرى بلغت 72%، بحسب أرقام مجلس الخدمة المدنية. بمعنى أوضح، التعيينات على الأبواب والأزمة سبق أن «رشّقت» القطاع وأفرغته من الكفاءات، فأي هيكلة يسعى إليها الرئيس؟
في خطاب القسم، قال رئيس الجمهورية جوزف عون، إنه يريد «إدارة حديثة إلكترونية رشيقة فعّالة حيادية لا حصرية ولا مركزية». كلمات كهذه تنزل كالموسيقى على أذن فؤاد السنيورة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وعلى أصحاب العمل الذين لطالما طالبوا بالترشيق وبخصخصة القطاع العام. ربما ما لا يعلمه عون أن القوى العسكرية كانت هي المصدر الأكبر لنزف الخزينة، سواء في الرواتب والأجور أو في المخصّصات لفئات الضباط وفي النفقات السرية وسواها. رغم ذلك، ثمة كثير من الاقتصاديين يرون أنه لولا هذا النزف لكان قسم كبير من المجتمع اللبناني في حالة يُرثى لها أكثر، باعتبار أن حصّة الأجور من الناتج كانت متدنية جداً ولو أن القوى العسكرية تستحوذ على حصّة وازنة منها. فالأجور هي المعيار الأساسي لصحّة الاقتصاد وكفاءته.
هذا كان قبل الانهيار. الآن، تدنّت حصّة الأجور إلى أقل من 15% من الناتج وفق التقديرات. وباتت الأجور، ولا سيما في القطاع العام، غير كافية لتغطية الحاجات الأساسية لمعيشة الموظفين. بل أظهرت النتائج أن القطاع الخاص تعطّل كلياً عن العمل في ظل تدنّي أجور القطاع العام، فضلاً عن أن المعيار المتصل بنزف الخزينة، لم يعد صالحاً بعد الانهيار المصرفي والنقدي. فقد تآكلت الإدارة العامة والمؤسسات العامة من «هجرة الأدمغة» التي لم تغرِها رواتب وأجور القطاع العام. هذه الهجرة دفعت العاملين في القطاع العام إلى الهروب بعيداً وبات الشغور يهيمن على المؤسسات الرسمية. الخطاب كان يجب أن يحاكي هجرة الشباب والكفاءات والأدمغة وأن يتماهى مع طرح مشروع التخلّي عن الأفكار المعلّبة بدلاً من تركيب الأحرف والأسطر تركيباً بعيداً عن الواقع. لم يقل معدّو خطاب الرئيس، ما الذي سيفعله لحماية الفقراء ولاستعادة الطبقة الوسطى وفق مشروع ضريبي ينتشل البؤس من عيون الشعب. كان المطلوب فعلاً طي صفحات الماضي بمشروع واضح، لا بإشارات إلى صندوق النقد بأننا سننفذ ما يطرحه حصراً
72% نسبة الشغور في الإدارة والمؤسسات العامة
وفق إحصاءات رسمية صادرة عن مجلس الخدمة المدنية، يشمل الشغور في الدوائر الرسمية كلّ فئات الوظيفة العامة من الأولى، أي المديرين العامين ورؤساء المصالح بنسبة 41%. هناك 32 مديرية عامة في الإدارة الرسمية بلا مدير عام أصيل. أما في الفئة الخامسة وهي فئة الحجّاب والخدم والسائقين، فقد بلغت نسبة الشغور 91%. ويؤدي الشغور في هذه الفئة تحديداً إلى فقدان عصب العمل اللوجستي. وفيما بين هاتين الفئتين، يُعدّ الشغور في الفئة الثانية الأخطر على الإطلاق، وفقاً لعدد من المديرين العامين، إذ تشكل هذه الفئة الطبقة القيادية في الإدارة، وهي تعاني من شغور بلغت نسبته 80%.
تُعنى الفئة الثانية من الموظفين بـ«إعداد القرارات وصياغة السياسات»، وهي فئة وسيطة بين الإدارة العليا، أي الوزراء والمديرين العامين، والموظفين العاديين الأقل رتبة. فهي تشهد تراجعاً حاداً في أعداد كوادرها، ما يُنذر بفقدان الخبرات المتراكمة والكفاءات الضرورية لسير العمل الحكومي. وفي الفئة الثالثة التي تشمل رؤساء الأقسام والدوائر، وصل الشغور إلى 64%، ما أدّى إلى إفراغ 3122 مركزاً من موظفيه من أصل 4884 مركزاً. أما في الفئة الرابعة التي فيها العدد الأكبر من المراكز وعددها 18340 مركزاً، فوصل الشغور إلى 70%، ما يعني فراغاً في 12851 مركزاً.
يُذكر أن السلّم الوظيفي في الإدارة العامة اللبنانية يتكوّن من خمس فئات، إلا أن الفئتين الثانية والثالثة تُعتبران الركيزتين الأساسيتين للعمل الإداري. فموظفو الفئة الثالثة يتم تعيينهم عبر مباريات حصرية، بينما يُرقّى موظفو الفئة الثانية من الفئة الثالثة وفق شروط محددة.
في الواقع، إن خطاب الرئيس عون يتعامل مع الإدارة العامة والمؤسسات العامة باعتبارها جسماً ثقيلاً قليل الحركة ومكلفاً على الخزينة، وبالتالي يجب ترشيقه. فمن أهدافه الوصول إلى «إعادة هيكلة الإدارة العامة». هذه العبارة تحديداً تعيد إلى الذاكرة مشاريع البنك الدولي وصندوق النقد الهادفة إلى «قصقصة وظائف ومهام القطاع العام» باعتبارها أعباء لا يجب على الدولة أن تتحمّلها، أي إن على الدولة ألا تكون دولة للرعاية الاجتماعية.
وهذا بالفعل ما قامت به السلطة خلال السنوات الـ25 الماضية، إذ أدخلت عشرات العاملين إلى الإدارات العامة للعمل في مراكز أساسية وحساسة باعتبارهم ذوي كفاءات عليا، وأنشأت قطاعاً عاماً رديفاً مموّلاً بقسم أساسي منه من المال العام، ثم اعتمدت طريقة ثانية، فبدأت تفرض قروضها وهباتها على الدولة مقابل استشارات تنفّذها هي بالتعاون مع بعض الموظفين، أي إنها اشترت ولاءهم، وهمّشت في المقابل وظائف أساسية في الإدارة العامة. وتعزّز هذا الأمر بعد الانهيار المصرفي والنقدي. فمثلاً، في وزارة الداخلية يتنافس الموظفون للفوز بالعمل في إدارة تتعاون مع إحدى المنظمات الدولية الناشطة في الوزارة، وفي وزارة المالية يغدق البنك الدولي بعطاءات على عدد من الموظفين في مفاصل أساسية بغية تحويل توجهاته والمفردات التي يستخدمها إلى سياسات حكومية. وفي وزارة الصحة، أصبح الشغل الشاغل للموظفين الفوز بعقد مع منظمة دولية تعمل في الوزارة لزيادة مدخولهم الشهري.
في مقابل هذا السلوك، يقف البنك الدولي وصندوق النقد حاجزاً أمام إعادة التوظيف في الإدارة العامة، إذ يُقابَل كلّ مطلب بملء الشغور بالتخويف من فزّاعة البنك الدولي وصندوق النقد. وبعيداً من الدخول في خلفيات عون الفكرية، ورؤيته للمهام المطلوبة من الموظفين في الإدارة العامة، تواجه الإدارة العامة في لبنان أزمة الشغور الخانقة بالترقيع، رغم وصول نسب الشغور إلى مستويات غير مسبوقة، تهدّد بانهيار الجهاز الإداري للدولة. فمن بين 27 ألف وظيفة ملحوظة في الإدارة العامة، ليس مشغولاً سوى حوالي 7900 وظيفة مقابل 19900 وظيفة شاغرة، أي بنسبة شغور تتجاوز 72%.
ونتيجة لهذا الشغور، تلجأ بعض الوزارات إلى التكليف، وهو إجراء يُعتبر مخالفاً للقانون ويعزّز الزبائنية السياسية والرشى. فيتم تكليف موظفين من الفئتين الرابعة والخامسة، وحتى من الأجراء، لشغل مناصب أعلى من مستوياتهم، بحسب رواية عدد من المديرين العامين. والأخطر من ذلك، تكليف مديرين عامين من فئات دنيا أو من المتعاقدين، ما يُثير تساؤلات حول مدى قانونية هذه الإجراءات وتأثيرها على سير العمل الإداري. على سبيل المثال، يشغل جميع القائمّقامين حالياً مناصبهم بالتكليف، مثلهم مثل 4 مديريات عامة في وزارة الأشغال، و3 مديريات عامة في وزارة التربية، والمديرية العامة للصحة، والسياحة… ما يطرح تساؤلات حول مدى استقلالية هؤلاء المكلّفين وقدرتهم على اتخاذ قرارات حاسمة، خاصة في المناصب الحساسة كمراقبي الضرائب مثلاً.
يزداد الوضع في الإدارات العامة تعقيداً مع اقتراب موعد تقاعد أعداد كبيرة من الموظفين الحاليين، إذ خلال عام 2024 أحيل 453 موظفاً من الإدارة العامة إلى التقاعد، بحسب أرقام مجلس الخدمة المدنية. وفي عام 2025، سيحال 450 موظفاً إلى التقاعد، فضلاً عن عدد آخر من الموظفين سيتركون الخدمة لأسباب مختلفة كالزواج أو طلبات إنهاء الخدمة. وبحلول عام 2030، من المتوقّع أن تفقد الإدارة العامة 2850 موظفاً بسبب بلوغهم سن التقاعد القانونية فقط، إضافة إلى مئات آخرين من المؤسسات العامة والبلديات.
أكثر من 92 ألف شخص يتقاضون أموالاً عامة
يبلغ عدد الذين يتقاضون أموالاً عامة مقابل خدمات نحو 92 ألف شخص، 60% منهم متعاقدون، أي نحو 54 ألفاً. ويستأثر السلك التعليمي بالعدد الأكبر من المتعاقدين، ويصل عددهم فيه إلى 31 ألفاً و279 متعاقداً، أي ما نسبته 57% من مجمل أعداد المتعاقدين. وتعود أزمة المتعاقدين في الدولة إلى الإهمال المزمن الذي تعاني منه مختلف الإدارات الرسمية، فآخر مباراة أجراها مجلس الخدمة المدنية لتعيين موظفين في الفئة الرابعة في الإدارة حصلت منذ 14 عاماً، وآخر مباراة لتعيين أساتذة في التعليم الثانوي جرت منذ 9 سنوات، وفي التعليم الأساسي منذ 15 عاماً. وتعاني إدارات أخرى من توجّهات شبه رسمية لإنهائها وهدمها. فعلى سبيل المثال، بقرار حكومي، مُنع التوظيف في الجامعة اللبنانية منذ 30 سنة في عام 1996، ما أدّى إلى تدهور حال الجامعة على المستوى الإداري والتعليمي، إذ لا يمكنها استقطاب موظفين جدد سوى بعقود تُعرف باسم «عقد المصالحة». وبموجب هذه العقود، يتقاضى الأستاذ أو المدرّب أو الإداري الجديد في الجامعة «تعويضاً سنوياً» لا راتباً شهرياً، ما يجعل من رحيل هؤلاء مسألة وقت عند إيجاد فرصة عمل أفضل.
56 في المئة
هي نسبة الشغور في المؤسّسات العامة، وعددها 19 مؤسسة
48 في المئة
هي نسبة الشغور في مؤسّسة كهرباء لبنان، حيث شغرت 1403 وظائف من أصل 2944 وظيفة في ملاك المؤسسة
فؤاد بزي – الاخبار