أحدُ المعاييرِ الأساسيّةِ لاختيارِ شخصيّةِ العام ـــ رجلٍ أو امرأةٍ ـــ أن يكونَ دورُها ذا تأثيرٍ في الحاضرِ وفي المستقبلِ أيضًا، لكي يَجدَ فعلُ الاختيارِ مُبرِّرًا في التاريخِ. وأصلاً: مَن يَمكُثون في التاريخِ هم الخالِدون بمواقِفِهم لا العابرين بمناصِبِهم. فكم مَنصِبٍ راحَ بصاحبِه إلى النِسيانِ.
تَوسَّمتُ بالكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريركِ موارنةِ لبنان وأنطاكية وسائرِ المشرق، شخصيّةَ لبنان 2020.لو اسْتأنَسْتُ برأيِ غِبطتِه حِيالَ اختيارِه لأجابَ بتواضعِ رجلِ الله: “لـمَ أنا؟ ما قُمتُ إلا بواجبي تجاهَ ربّي وشعبي”. كان يُمكنُ أن نختارَ رمزَ العام في لبنان ضحايا مرفأِ بيروت، أو المرفأَ بذاتِه، أو مدينةَ بيروت المهدَّمة، أو رجالَ ونساءَ الدفاعِ المدنيِّ والصليبِ الأحمر الّذين أنقذوا البشرَ والحجَر، أو مجموعات الشبابِ الّذين نَظّفوا الشوارعَ ووزّعوا الإعانات، أو فِرقَ المهندسين الّذين رمّموا مجّانًا. كان يُمكن أن نَختارَ أيضًا الطِفلَ سُفيان الذي، بعدما مات على القارب، رماه والدُه في البحر، أو إحدى شخصيّاتِ الثورةِ لو أفرزت الثورةُ قائدًا أو قيادة، أو لبنانَ البلدِ بما عانى. ليس رجلُ العامِ دائمًا رجلًا أو امرأة. مجلّةُ “تايم” الأميركيّةِ، التي أطلقَت هذا التقليدَ سنةَ 1927، اختارت الكومبيوتر سنةَ 1982 والكرةَ الأرضيّةَ سنة 1988.
ما حَسَمَ لديَّ اختيارُ البطريرك الراعي إحساسي بأنّ لبنان، وسطَ الضياعِ الكبير، يحتاجُ شخصيّةً فَذّةً تَتخطّى الانقساماتِ وتَحمِلُ قضيّةَ لبنان وتُعيدُ تثبيتَ الكِيان. عاينتُ في البطريرك الراعي مواصفاتٍ شخصيّةً وإيمانًا روحيًّا ومبادئَ وطنيّةً وقيمًا إنسانيّةً وَفّرَت له القدرةَ على لعبِ دورٍ رائدٍ وقياديٍّ، وعلى استنهاضِ الشعبِ للدفاعِ عن وجودِه وهويّتِه وتاريخِه. يومَ أطلقَ البطريركُ الراعي عظةَ الخامسِ من تمّوز الماضي الشهيرةَ، ظَنَّ البعضُ أنّها شُعاعُ صيفٍ ويَغيب، فاغتَبطَ الناسُ إذ وجدوه ثابتًا ومثابرًا ومُصمِّمًا وتصاعديًّا وحاملَ مشروعٍ لإنقاذ لبنان مهما كانت الصعوباتُ والتحديّاتُ وبوجه أيٍّ كان.
سبقني إلى اختيارِ البطريرك: شاشاتُ التلفزةِ وأثيرُ الإذاعات. الصِحافةُ اللبنانيّةُ والعربيّةُ بعناوينِها ومقالاتِها وتحليلاتِها عنه، وآخِرُها مَقالُ جهاد الزين في “النهار” 29/12/20. أكثريّةُ الشعبِ اللبنانيِّ التي َوجَدت فيه بديلًا أصيلًا عن انكفاءِ السياسّيين وتراجعِ بعضِ الأحزابِ فأيّدَت الحِيادَ وأُعْجِبت بجُرأةِ مواقفِه وفائدتِها. واقعُ لبنان الذي يُفتِّشُ عن مُنقذٍ في زمنِ نُدْرة ِالروّاد. سفراءُ عربٌ وأجانبُ أَمّوا بكركي والديمان مؤيّدين ومُشجّعين. حضاريّو الثورةِ الّذين يَجتمعون به دوريًّـا. الفقراءُ وقد كَلَّف غِبطتُه مؤسّسات الكنيسةِ أنْ تُعِينَهم وتُوزِّعَ عليهم الإعانات. التاريخُ اللبنانيُّ الذي يَزهو بالبطاركةِ الأقوياءِ والمقاومين. البطريركُ الراحلُ مار نصرالله بطرس صفير الذي أتخيّلَه يَرى فيه من عَلْياه بطريركًا يُكْمِلُ مسيرةَ السيادةِ والاستقلال وتحريرَ لبنان من الاحتلالِ الجديد. قداسةُ البابا فرنسيس الذي يؤيَدُه كلّيًا ـــ خلافًا لتسريباتِ السوء ـــووَجّه عَبْره، لا عَبرَ الدولةِ، رسالةَ مَحبّةٍ ودعمٍ إلى اللبنانيّين وتوبيخٍ إلى المسؤولين. وزيرُ خارجيّةِ فرنسا حين قال من بكركي: “لا قيمةَ لسيادةِ لبنانَ من دونِ الحياد”. وأخيرًا، لا آخِرًا، اللبنانيّون، شعبًا ومسؤولين، وهُم يَترقّبون عِظاته كلَّ أحد، فيرفعُ اللبنانيون رؤوسَهم والمسؤولون يُطأْطِؤنها.
ليس غِبطةُ البطريرك الراعي قائدَ جيشٍ بل قائدُ شعبٍ قامَ بدورِ الجيش في مراحلَ عدّةٍ دفاعًا عن الوجودِ الحرِّ ولبنانَ الوطنِ والدولةِ والشَراكة. وكما عَوّضَ شعبُ البطريرك عن تقاعسِ الدولةِ منذ سنةِ1943 فكان رمزَ المقاومةِ اللبنانية، يُعوّضُ البطريركُ الراعي عن تقاعسِ الدولةِ وعددٍ من القيادات المدنيّةِ. خِلالَ العامِ المنصرِم، انتفَض البطريركُ الراعي على طريقتِه. طرحَ مصيرَ لبنان. قَدّمَ مذكّراتٍ حولَ مستقبلِ لبنان إلى رؤساءِ الدول. اتّخذَ مبادرات داخليّةً وخارجيّة. هزّ الضمائر. قالَ الحقَّ. كَشف المتخاذِلين. رَفع الصوتَ والسقف. وجّهَ أَصابعَ الاتّهام وأنَّب. أيّدَ الثورةَ. دعا إلى حِيادِ لبنان وأصدَرَ وثيقتَه الأولى. طالبَ بتحريرِ قرارِ الشرعيّة. ناشَد المجتمعَين العربيَّ والدوليَّ نجدةَ لبنان وضمانَ وجودِه المستقلِّ والديمقراطي، وأثارَ قضايا الناسِ ومآسيَهم… خلالَ العامِ المنصرِم أعطانا البطريركُ الراعي ثقةً، قوّةً، شجاعةً، وأملًا. أنعشَ روحَ المقاومةِ والقدرةَ على المواجَهة. أصرَّ على الشراكةِ الوطنيّة. واجَه الطبقةَ السياسية، وصارحَ الحكّامَ وجهًا لوجَه.متابِعو مواقف البطريرك يلاحظون، دون شكٍّ، أولويّةَ المصلحةِ اللبنانيّةِ العابرةِ الطوائفَ والعالمَ العربي على الاعتباراتِ المسيحيّة الضيّقة. فصِحّةُ المسيحيِّين من صِحّةِ دولةِ لبنانَ وليست من صِحّةِ بعضِ القياداتِ المسيحيّة ومصالحِها.
كان لا بدَّ للبطريركِ الراعي أنيُجَدّدَ مرجِعيّةَ بكركي الوطنيّةَ بموازاةِ مرجِعيّتِها الدينيّة. فبعد أن كان لها الدورُ الأساسُفي إنشاءِ دولةِ “لبنان الكبير”، تَركت إدارتَها الدستوريّةَ والسياسيّةَ للعَلمانيّين، وانتحَت تُراقِبُ مسيرةَ التجربةِ الوطنيّةِ الفريدةِ في الشرق. لكنَّ البطاركةَ سرعان ما كانوا يَهُبّون لتصويبِ المسارِ ودقِّ الناقوس كلّما وَجدوا انحرافًا في الِخياراتِ وسوءَ حوكمةٍ وتلكّؤًا سياسيًّا وخطرًا يَتهدّدُ الكِيانَ اللبنانيّ. فالكنيسةُ لم تناضلْ ألفًا وسِتَّمائةِ سنةٍ لتأسيسِ دولةِ لبنان على كاملِ ترابِ الوطنِ، للمرّةِ الأولى في تاريخِ شعبنا، لتتَركَها ريشةً في مَهَبِّ مشاريعِ هذا الـمُكوِّنِ أو ذاك، ولعبةً بين أيدي دولِ المحيط، وأداةَ طموحاتٍ رئاسيّةٍ. البطريركيّةُ هنا. مجدُ لبنان الذي أُعِطيَ لها، باقٍ لديها. وها هو البطريركُ بشارة الراعي يَتدخّلُ لتصحيحِ مسارِ الدولةِ اللبنانيّةِ المحتلَّةِ والمتهاويةِ من جِهة، ولتصحيحِ خِياراتبعضِ المسيحيّين من جِهةٍ أخرى.
البطريركُ مار بشارة بطرس الراعي هو رجلُ العام من أجلِ الأعوام المقبلة. صعبٌ دورُه. البطريركُ الراحل مار نصرالله صفير قاومَلزمنِ الأمل (2005)، بينما البطريركُ الراعي يقاوِمُ اليوم في زمنِ اليأس (2020). لكنّه عازم أنيُحوّلَ اليأسَ قيامة. ما زَرعه البطريركُ الراعي هذا العام سيُزهرُ في العامِ الآتي.