فوضى أو صدفة؟ سؤال يُطرح عن الواقع اللبناني الذي يتخبّط في سلسلة من الأحداث أقلّ ما يُقال فيها أنها خرجت عن سيطرة المعنيين. الصدفة تعني عدم القدرة على التنبؤ بحيث تأتي من خارج السياق العام ومن دون سابق تصميم أو تصور في حين أن الفوضى تعني غياب الإنتظام بمعناه العام… قد يظنّ البعض أن الفوضى هي نتاج عدد من الظواهر التي لا يُمكن تنبؤها إلا أن علماء الفيزياء أثبتوا أن الفوضى هي نتاج ظواهر يُمكن التنبؤ بها نظريا (حتمية) بدقّة في أغلب الأحيان وما يجعلها مُعقدّة هي الديناميكية الخاصة التي تتطوّر بشكل سريع يجعل التعقيد قسِيَ مع مرور الوقت.
الفوضى بمفهومنا العصري ظهرت في ستينات القرن الماضي مع ظهور الحواسيب مع مُحاكاة تطوّر الأنظمة القطعية الحساسة للظروف الأولية وهو ما أظهر إلى العلن تعقيدات تطوّر الفوضى حيث أن التطور يتمّ بشكل مُختلف تمامًا إذا غيّرنا الحالة السابقة ولو بطريقة مُتناهية الصغر. بمعنى أوضح، أي تعديل بسيط في الحالة الأوّلية للنظام يُغيّر تطوّره تماما مع مرور الوقت ومرد ذلك إلى عملية التسارع الحاصلة في التسلسل المنطقي للحوادث.
وأمّا حالة الواقع اللبناني فقد يرجع إلى أن الهزات والفوضى ترجمة لما آلت إليه الأمور مع غياب تخطيط وإستشراف مُستقبلي لما قدّ تؤول إليه الأمور لا سيما، وكما أوردنا سابقا، أن أي تعديل بسيط في الحالة الأوّلية للنظام يُغيّر تطوّره تماما مع مرور الوقت. وهنا نطرح السؤال إذا ما كانت القوى السياسية واعية لمدى خطورة غياب الإستشراف والتخطيط في حياة الدول؟ فالتطورات الإقليمية والدوّلية تُظهر إلى العلن تحويلاً واضحاً للصراعات الإقليمية التي تُحيط بلبنان حيث تحوّلت مثلا هذه الصراعات من صراعات عربية – إسرائيلية إلى صراعات عربية – تركية – فارسية في ظل وجود دول ضعيفة تُحيط بالدولة العبرية مع عامل مُشترك فيما بينها وهو الضعف العام أمام اقتصادات الأمم الكبرى وهو ما يترجم جلياً في تقلبات العملة الوطنية وهشاشتها.
لبنان لم يكن على مستوى التحدّيات الداخلية من ناحية تأمين حياة كريمة لمواطنيه، ولا الخارجية من ناحية منع التدخلّ الخارجي في أموره الداخلية. وقد تجلى ذلك في فقدان السيطرة التي تُرجمت بالرفض الشعبي الذي إندلع في تشرين الأول 2019 وإمتدّ على طول العام 2020. ويُمكن أيضاً رؤية هذه الترجمة على الصعيد السياسي في عدم قدرة المعنيين تأليفَ حكومة في وقت يُعاني فيه المواطن بشكلٍ حاد إن على الصعيد الإقتصادي أو المالي أو النقدي أو الصحي. وهذا ما يعرف بالشلل التام الاضطراري.
إن هذا الأمر، بنظري، هو نتيجة طبيعية لمقدمة غياب التخطيط الذي لا مفر من أن يؤدي إلى تعديل في الحالة الأساسية للنظام اللبناني (السياسي والإقتصادي) وصولا إلى حالة الفوضى التي إستفحلت في العام 2020 مع بروز مخلفات كل هذه الإخفاقات في صورة أزمات وفي آن واحد. وبالتالي لا بد أن تخرج الفوضى «المُتعمّدة» عن سيطرة الحكام.
بالتحديد، كورونا تستفحل بين المواطنين! من السهل رمي المسؤولية على الشعب والقول إنه مُستهتر، إلا أن الواقع هو أن الحكومة هي من تتحمّل هذه المسؤولية مع غياب التشدّد في الإجراءات الوقائية. أوليس من المفترض، كما يقول أفلاطون، أن تقوم النخبة بإدارة أمور عامة الشعب الذين يعجزون عادة عن إدارة أمورهم؟ ويبقى الحلّ الأسهل هو قرار الإقفال التامّ الذي سيؤدّي إلى الضرب من جديد بآخر أعمدة الإقتصاد ليزيد من فقر الشعب الذي أصبح أسير الهاوية.
قرار الإقفال المنوي أخذه في الأيام القادمة يعكس غياب التخطيط، فالمعنيون يعتقدون أنه يتوجّب علينا إقفال البلد إلى حين وصول لِقاح كورونا وكأن هذا الأخير سيحّل مشاكل لبنان الصحية ومن خلفها الإقتصادية والمالية والنقدية. ومن جديد تظهر إنعدام الرؤيا وقلة الخبرة وعدم التخطيط والانتظام… فعلى الرغم من الحديث عن فعالية عالية للِقاح كورونا، إلا أن الشروط التي تفرضها الشركات المُنتجة للِقاحات وعلى رأسها شرط «رفع المسؤولية عن الشركة في حال كان هناك تداعيات سلبية للِقاح» هو إعتراف مباشر من هذه الشركات أن فعّالية اللِقاح ما زالت موضوع درس. هذا الشرط هو ما يؤخّر توقيع عقود شراء اللِقاحات مع الشركات وبالتالي فإن المسؤولين يعتمدون على مقولة «يسوانا ما يسوى الدول الكبيرة» أو مقولة «مناعة القطيع».
بعض الدراسات التي يُمكن إيجادها على الإنترنت تتوقّع موجة كبيرة في العام 2021 وموجة أخرى في العام 2022. هذا الأمر يعني أنه علينا أن نتعايش مع الوباء من خلال التشدّد في فرض الإجراءات الإحترازية (الكمّامات والتباعد الإجتماعي وغيرها) وترك الماكينة الإقتصادية تعمل بالحدّ الأدنى على الأقل رأفة بما بقي من معيشة اللبنانيين إلا أللهم إذا كان الإقفال هو طريقة للجم الإنفجار الشعبي القادم.
على الصعيد الإقتصادي، التلكؤ في أخذ الإجراءات من قبل حكومة تصريف الأعمال يجعلها مسؤولة (أقلّه أخلاقيا) تجاه الشعب اللبناني. بعض الإجراءات التي تدخل ضمن نطاق تصريف الأعمال يُمكن القيام بها وهي تُخفّف الأزمة على المواطن اللبناني. من هذه الخطوات يُمــكن ذكر خفض الإنفاق العام حيث يُمكن خفـضه أســوة بما يحصل في جميع المؤسسات الخاصة التي سبقت الدولة في التخطيط والتحوط للمخاطر المرتقبة منها والطارئة، يضاف إلى ذلك ترشيد الدعم المُقدّم من قبل مصرف لبنان، والتشدّد في الرقابة على جشع التجار ومنع الفوترة بالدولار الأميركي، ومنع التهريب للسلع والبضـائع المدعومة من قبل مصرف لبنان، وتنسيق عمل البلديات لوضع أملاك عامة بتصرّف مزارعين أو صناعيين قادرين على الإستثمار وإنتاج قسم من الإستهلاك المُسـتورد.
في خضم هذه الصور القاتمة يراهن البعض على الملف النفطي الذي قدّ ينشل لبنان من أزمته المالية والإقتصادية، إلا أن هذا الأمر وكما قلناه من أكثر من خمس سنوات، لا يُمكن أن يحصل لأن الشركات لن تبدأ إستخراج الغاز فيما التهديد الإسرائيلي موجود في كل لحظة أضف إلى ذلك الضغوطات الدولية التي تُمارس على الشركات. عمليا وحتى بفرضية البدء بالتنقيب اليوم، فهناك فترة تمتد لأكثر من خمس سنوات في أحسن الأحوال للبدء بإسـتخراج الغاز. وعملية الإستشكاف التي طـالت البــلوك رقم 4 وصلت إلى نتيجة أن لا كميات كبيرة من الغاز، إلا أن التقرير التقني لم يتمّ نشره وبالتالي هناك فرضية أن يكون هناك ضغوطات على شركة توتال على هذا الصعيد.
على الصعيد المالي، تُشير أرقام وزارة المال المعروضة على بوابتها الإلكترونية أن العجز في الموازنة بلغ حتى الشهر الثامن من العام المُنصرم 3821 مليار ليرة لبنانية أي 29% من إجمالي الإنفاق. وبالتالي هناك إلزامية وقف هذا العجز خصوصا أن الدوّلة توقفت عن دفع سنداتها وهو ما يفرض خفض الإنفاق 3821 مليار ليرة أو زيادة الإيرادات (التشدّد في الرقابة على التجار مثلا). هذا الأمر يجب أن يتزامن مع وضع مسودة موازنة للعام 2021 تأخذ بعين الإعتبار الواقع المالي الحالي والخطوات الواجب إتخاذها لتأمين الإستقرار الإقتصادي.
على الصعيد النقدي، يبقى طبع العملة بهدف سدّ عجز موازنة الدولة وتلبية المودعين سببا رئيسيا في التضخمّ. هذا الأمر، مع ممارسات التجار خصوصًا في ما يخص الأسعار والقبض نقدًا، يؤدّي إلى ضرب قيمة الليرة اللبنانية من خلال تفقير الشعب لأن العملة تعكس ثروة البلد. فلبنان يعيش زيادة في إلتزاماته المالية (أي المطلوبات) وإنخفاض في المداخيل (تهرب ضريبي نتيجة القبض نقدا وتراجع النشاط الإقتصادي) وبالتالي أي زيادة بطبع العملة هو تخفيض لقيمتها ودخول من جديد في الحلقة المفرغة!
من هذا المُنطلق نرى أن الإجراءات المُتخذة لا ترتقي إلى المستوى المطلوب خصوصا في ما يخصّ مافيات العمّلة التي تلعب أسوأ دور في سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي ناهيك عن الضرب المتواصل على القطاع المصرفي الذي نقل الإقتصاد من إقتصاد سوق إلى إقتصاد نقدي أضحى فيه الجميع خاسرا.
يبقى القول أن غياب الإجراءات لتصحيح المسار يأخذ لبنان إلى ما يُسمّى بالفوضى المُتعمّدة حيث لا سيطرة محلّية عليها بل السيطرة موجودة خارج الحدود وبالتحديد في بعض عواصم القرار. الخروج من الأزمة يبدأ بأخذ الإجراءات التصحيحة المطلوبة فهي تُشكّل الباب الوحيد لإستعادة السيطرة على هذه الفوضى.