خليل صويلح
يحيلنا جان ماترن (1965) إلى أكثر من معنى للفقدان، أو الخسارة، أو فداحة النسيان. للوهلة الأولى، سيذهب تفكيرنا نحو الموت، وفقدان من نحب. الفكرة التي توقظ لدينا قائمة طويلة من أسماء الغائبين، أولئك الذين رحلوا بغتة، وبقيت عناوينهم وأطيافهم وحسب. لكن الروائي الفرنسي الذي درس الأدب المقارن، وعمل محرّراً وناشراً في أكثر من دار نشر فرنسية، يذهب إلى خرائط أخرى للخسارات، كأن يفقد مخطوط رواية كان يخزّنها على الكمبيوتر، أو يفقد لغته الأولى، هو المهاجر من أوروبا الشرقية، أو من هويته الأصلية، وقبل ذلك تجربته في استعادة سيغموند فرويد بقراءة جديدة لكتابه «الأحلام والهذيان»، وعلى نحوٍ أدقّ: تحليله النفسي لكتاب «غراديفا» لِولهلم جنسن، معتبراً إياه أول كتاب في الأدب النفسي. وسط هذه المتاهة، يبدو صاحب «منظر استثنائي» كمن يستعيد فضاءات مراهقته البعيدة في ألمانيا، حين كان يستعير الكتب من مخزن صغير، منجزاً ـــ بما يشبه الحمّى ـــ قراءة ستة كتب في الأسبوع (يفتقد اليوم تلك اللحظات الحميمية للعزلة). سنتخلّى إذاً عن العنوان الأصلي لكتابه «عن الخسارة والسعادة الأخرى» (غاليمار)، حسب نسخته الفرنسية، ونلجأ إلى ما اقترحه عبد الهادي الفقير في ترجمته للنسخة العربية «في مزايا الفقدان: عن الكتابة والتحليل النفسي» التي ستصدر قريباً عن «دار نينوى» قريباً، ذلك أن الفقدان اسم آخر للخسارة. أن تهجر الكتابة بخطّ اليد وتلجأ إلى الكتابة على شاشة الكمبيوتر، ثم تفقد ما كتبته بخطأ تقني لمواكبة العصر، هو بشكلٍ ما هجاء مراوغ للحظة العولمية الراهنة التي أطاحت بطمأنينة الأمس. خسر لذة الكتابة الأولى عن فرويد، لكنه، في الكتابة الثانية، أحسّ بلذة أكبر: «إن رغبتي في الغطس من جديد في أعماق كتابات فرويد التي تركتْ قراءتها أثراً كبيراً عليّ أثناء مراهقتي، تَعدني الآن بمغامرة شيقة، حبلى بالفكَر وبالكتابة الأدبية» يقول. يؤكد صاحب «أزرق البحيرة»، و«حليب وعسل» أهمية فرويد والتحليل النفسي في اكتشاف لذّة موازية للشهوانية، هي لذّة القراءة، والشغف في الغرق بين الكتب، بالإضافة إلى الموسيقى، وإذا ما خسرناه في الأمس نستعيده بشبقٍ أكبر اليوم، روحياً وحسيّاً. يرمي جان ماترن عموماً إلى المزج بين الكتابة والتحليل النفسي بقوله: «لا أعتبر عملي الروائي من زاوية علاجية، لا أبداً. لكنني قد أكون معتوهاً إذا لم أعترف بأن تحليلي النفسي الشخصي هو ما فتح لي باب الكتابة»، مراهناً على أنّ «التحليل النفسي والآداب، كليهما، يُتاجران بشؤون أرواحنا». هكذا يرمّم فقدانه التوازن لعطب في قدميه، بالمشي والتأمل، وتفسير أحلامه وهذياناته باللجوء إلى شكسبير وفرويد في آنٍ واحد، «فليس هناك أفضل منهما في سبر أغوار وطبقات إنسانيتنا وجعلها تعبّر عن ذاتها، سواء كان ذلك على أريكة التحليل أو بين دفتي كتاب».
هنا مقاطع من اعترافات جان ماترن:
كارثة فقدان مخطوطة كتابك
كاد هذا الكتاب ألّا يرى النور بعد كتابته. فقد ابتلعه ثقب المعلوماتية الأسود، كابوس كل كاتب. ذلك أنني فقدتُ قرص الكمبيوتر الذي تضمَّن الكتاب أثناء نقل أثاثي من منزل إلى منزلٍ آخر وأيضاً بعدما تم ضغط «الكلاود» فحصل إفراغه من نسخة المخطوط المحفوظة به.
حتى هذه اللحظة، كنت أكتب كل رواياتي بخط اليد قبل العمل على تسجيلها كي تصبح ملفاً إلكترونياً. لكن إحساساً غامضاً دفع بي هذه المرّة للتخلّي عمّا اعتدت عليه، وألحَّ عليّ بأن الوقت قد حان لمصاحبة العصر واستعمال وسائله. فكي أدَّخر الوقت والطاقة، كان عليّ أن أكتب مباشرة على كيبورد حاسوبي الصغير، الأعجوبة التكنولوجية الحديثة. إنه خفيف وجدُّ مناسب، فلماذا إذاً لا أستعمله كما يفعل كل الآخرين مثلي؟
بكلّ تأكيد، أنا لست ككل الآخرين، وما يصلح للآخرين ليس بالضرورة ما يناسبني. لكن ربما هذا الموقف هو مجرد ردة فعل مني كي أدافع عن كبريائي وأتناسى إحساسي المخزي بكوني فشلت أيّما فشل في أن أصبح كاتباً عصرياً. وربما قد يكون الأمر غير ذلك.
لكن ماذا يمكن قوله في هذه الممارسة التي تتطلّب منا إيداع حصيلة أعمالنا ومنتوج مجهودنا الفكري، في «الكلاود»، هذا الهوام المعاصر؟ يا لها من حماقة تجعلنا نتصوّر أن سحابة قد تشكل المكان الآمن للاحتفاظ بأفكارنا، والمكان اللائق لتثبيت الكلمات التي ضمَّناها أحلامنا حتى تصبح نصوصاً قابلة للنشر؟
وربما أنني هكذا فعلت كلّ ما في وسعي، ولو مرة واحدة، كي أضيِّع كل ما كتبته من أفكار حول سيغموند فرويد. فهل أضعتُها رغماً عني في قرص كمبيوتر ثم في سحابة معلوماتية، كي يُقدّر لي أن حصل عليها مجدداً وبشكلٍ أفضل؟
لقد استقبلتُ رغم ذلك هذا الطرح بفرح كبير وبكثير من الإثارة: إن رغبتي في الغطس من جديد في أعماق كتابات فرويد التي تركتْ قراءتها أثراً كبيراً عليّ أثناء مراهقتي، تَعدني الآن بمغامرة شيقة، حبلى بالفكَر وبالكتابة الأدبية. لم يكن من الصعب عليّ اختيار أحد نصوص فرويد. فمن بين ما كتبه هذا الأخير، كان تعليقه على إحدى قصص الكاتب الألماني ولهلم جِنْسِن قد شغل في ذاكرتي كقارئ، موقعاً خاصاً. وهكذا، إذاً فإن كتاب فرويد حول «الهذيان والأحلام في «غراديڤا» لجنسن»، هو ما سأستعمله كنقطة انطلاق للتعامل مع بعض المبادئ الفرويدية الكبرى، من خلال الإنارة المستقاة من تجربتي الشخصية لمبدأ اللذة. فما بإمكانه يا ترى أن يكون محفزاً لي، بصفتي ناشراً وكاتباً خضع لتحليل نفسي شخصياً، أكثر وأفضل من أن أكتب تعليقاً على تعليق قد يقترب من تمرين تلمودي، أو أكثر وأفضل من الاطلاع على الكتاب الوحيد الذي يقف فيه فرويد بكل جلاء موقف المفسّر لكتابٍ أدبي؟
انطلقتُ في قراءة هذا النص من جديد، بنظرة كنت أتوخاها مستجدة إلى أكبر حدّ. قرأته أولاً في الأصل الألماني ثم من خلال الترجمة الفرنسية. بعدها قمت بتدوين الملاحظات على أحسن وجه. وفيما بعد وتحت سماء رحيمة لصيف بعيد، انطلقت في كتابة أفكاري بكلّ سهولة ويسر. وهكذا شرعتُ في المزج بين قراءتين لهذا النص: قراءة مراهق في السابعة عشر من عمره، وقراءة رجل احتفل للتو بمنتصف حياته. فغَلب عليّ الظن بأن هذا التمرين سيُخلف بعض الشرارات (مِن اللذة إن لم تكن من قبيل الذكاء). ولقد بدا لي بأن هذا التمرين سينتج عنه شيء ما لا محالة.
إن كلمة «موزي لاور» في اللغة العبرية، تدل على مهنة الناشر وفي نفس الوقت، هي نفسها التي تطلق على القابلات. بمعنى أنها تخصّ من يقوم بإخراج كائن ما إلى النور. وهكذا، فإن الاعتناء بولادةِ نص ما، كما يتم الاعتناء بمجيء مولود إلى الحياة، هي صورة لشدّ ما أعجبتني. وباستعمال هذه الاستعارة، انتهى بي الأمر إلى تقبّل كون بعض النصوص قد لا تنجح في تخطّي مخاطر تزج بها في جحيم تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين، وذلك من دون رجعة ممكنة، تماماً كما يحدث لبعض الأجنّة التي لا تصل إلى أجلها المحتوم. في هذه الحالة، لم يبقَ لأوراقي من وجود في أفقي كي يتسنّى لي استرجاع منطقة «زوريديستي» الخاصة بي إلى الحياة الورقية. وبهذا الخصوص بالذات، فإنّ رأي اختصاصيي الكمبيوتر قطعيٌّ ولا نقاش فيه.
إن كتابي هذا بمثابة عودة من نوع خاص إلى الحياة. والأكثر من ذلك، إنه يشهد على تغيّر عميق في طريقة حياتي، تغيرٌ تزامن مع لحظة كتابته الأولى وكذلك مع لحظة افتقادي (أهو فقدان ضروري؟) لمخطوطة الكتاب، ثم إعادة كتابته مرة ثانية. إن هذه المصادفات، التي ليست هي كذلك في الحقيقة، تزامنت وتماشى بعضها بجانب البعض مع أفكاري في هذا الكتاب الذي أضعه بين يدي القارئ، حول قصة «الغراديڤا» وحول عبقرية فرويد بشأنها. فأفكاري هذه تعبير عن صراعاتي ومحاولات ترتيبي بين الواقع واللذة أو قُل بين الوقائع والملذات. وربما هي ليست إلا اعترافي بفقداناتي المتعدّدة وقد انقلبتْ إلى سعادة، وربما إلى سعادات متنوعة ومتعدّدة.
فقدان الكرامة
على عكس بطل ولهلم جنسن الذي قام فرويد بتحليل «جنونه الخاص»، لم يحصل لي أن شعرت بمناداتي واستدعائي لمكان آخر بواسطة تصوّر ما لوضعية قدم متميزة. لكنني كنت على غراره، مسكوناً بخيال حادّ جداً، يمكن أن ينبعث ليس فقط من خلال الأحلام، لكن أيضاً في حالة اليقظة. وبكلّ صدق، ليس بإمكاني الآن أن أثبت بأنني لمحت هذا التشابه إبان قراءتي الأولى لما كتبه فرويد. فلست أدري إن أنا تعرّفت على نفسي مباشرة في الوصف الذي يعطيه فرويد لبطل هذا الاستيهام البومبي (نسبةً إلى مدينة بومبي الأثرية). لكنني اليوم أجدني تحت تأثير حكمته الممتلئة عزاءً، عندما كتب قائلاً: «بهذه القطيعة بين الخيال والعقل، فلقد أصبح مقدراً على ـــ هانولد ـــ أن يصبح إما شاعراً وإما عصابياً. إنه ينتمي إلى فصيلة من هم من مملكة ليست من هذا العالم». أما في ما يخصني، فلقد كنت أجهل إن كنت أنا شاعراً أم عصابياً في الحقيقة، لكن من المؤكد أنني كنت في بعض الأحيان أتساءل حقاً، عندما كنت أسقط مراراً وتكراراً، إن كانت قدماي من هذا العالم. إن سقوطي وانبطاحي على الأرض، يشكل لديّ بلا ريب أعلى شكل من أشكال الفقدان. ففقدان وضعية الانتصاب التي تميز الإنسان، يعني بالنسبة إليّ فقدان كرامتي وأنفتي.
لقد اختبرتُ رغماً عنّي كلّ أشكال السقوط، سواء أكان ذلك في السلالم أو على حافة رصيف، سواء أكان ذلك بالتعثر في حزام نعلٍ أم باشتباك قدمي اليسري بقدمي اليمنى. لقد اختبرت كل أنواع السقوط هذه بنوع من الانتظام، بل وبنوع من السعادة إن أمكن القول.
بفضل سقوطٍ جدّ مذهل من هذا القبيل، ابتدأ فصل جديد من حياتي لبضع سنوات خلَت. وفي هذا الصدد، قد يكون من السهل عليّ أن أقول إنني ما طلبت آنذاك موعداً مع المحلّل النفسي إلّا لمعرفة ما إذا كنت عصابياً فقط أو شاعراً بعض الشيء. لكني بهذا القول لا أفعل سوى تزيين الواقع بالتأكيد. فإذا كان نوربرت هانولد مضطراً للسفر إلى بومبي كي يتخلّص من أحلامه التي لم تبارحه والتي يرى فيها غراديڤا وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت أنقاض بركان فيزوف، فإنني قررت الذهاب إلى عنوان المحلل النفسي الأول كي أتخلّص أنا أيضاً من وساوسي. إنها أحلام تقطع فيها قدماي دائماً المسافة نفسها لتتوقف عند حافة قبر.
في الواقع كنت آنذاك لا أتجاوز الثلاثين من عمري وأصبحت أيضاً أباً للمرة الثانية. لكني كنت متأكداً بأنه ليس بإمكاني أبداً أن أخطو خطوة واحدة إلى الأمام. لقد كنت موقوفاً وعالقاً بسبب حلم عند حافة قبر.
فما عدا قراءاتي لبعض كتابات فرويد إبان فترة المراهقة، لم أكن أعرف شيئاً عن التحليل النفسي ولم تكن لي علاقات خاصة في هذا المجال. السبيل الوحيد الذي احتذيته يرجع إلى قراءة أوصاني بها لبعض سنوات خلَت، أستاذ الآداب الإنكليزية الذي كنت أكنّ له كامل الإعجاب والتقدير. إنه كتاب حول شكسبير ألّفه أحد المحللين النفسانيين. فهذا الرجل الذي بإمكانه أن يضيء لي عالم أبطالي المفضلين وبالخصوص منهم الملك المجنون الذي يهيم وحيداً في أرض اسكتلنده، يبدو لي أحسن اختيار لإنارتي عما يعتور ذاتي.
عندما فقدتُ لغتي
بدأتُ الكتابة متأخراً إلى حدّ ما في حياتي، في حوالى الأربعين من عمري، وفي لغة ليست لغة طفولتي، لكنها الوحيدة التي أحسّ أنني فيها أحيا. إنني لا أعتبر عملي الروائي من زاوية علاجية، لا أبداً. لكنني قد أكون معتوهاً إذا لم أعترف بأن تحليلي النفسي الشخصي هو ما فتح لي باب الكتابة. ثم إن التحليل لا يفتأ يسترسل نوعاً ما في مؤلفاتي. إنّ التحليل النفسي والآداب، كليهما، يُتاجران بشؤون أرواحنا (وللمرة الأولى، لا يتضمن مني هذا التعبير أي مزايدة سلبية). إذ في نظري، ليس هناك أفضل منهما في سبر أغوار وطبقات إنسانيتنا وجعلها تعبر عن ذاتها، سواء كان ذلك على أريكة التحليل أو بين دفتي كتاب. إن إعادة قراءة فرويد في لحظة فارقة من حياتي أبانت لي إلى أي حدّ يتجاور هذان الصنفان من المعرفة. كلاهما يمدّنا بمفاتيح من أجل الولوج لشكل من أشكال تحقيق الذات. إنه تحقيق الذات الذي يَعد به التحليل النفسي من يود تحليل نفسه، وهو ذاته ما تسمح به المرآة المعروضة على القارئ من جانب الكتابة الأدبية.
إن التحليل النفسي والآداب، كليهما، يُتاجران بشؤون أرواحنا
لقد كانت هذه الحرية وما زالت منبعاً لسعادة متواصلة لديّ. فالكتابة بلا ريب هي تمديد للخمس سنوات رتَّبها إيقاع مواعيدي مع المحلل النفسي. وإنها أيضاً وبالضرورة تجلب عليّ كل التمزقات النفسية الشبيهة بتلك التي ترافق أي تحليل نفسي. وهي كذلك تجرّ خلفها تقلبات جديدة لأن ما تتطلبه من سبر أغوار الذات – وإن كان هذا السبر يختلف عن ما يتم تفعيله في التحويل التحليلي – إلى إدراكات واعية غالباً ما تكون مؤلمة، تماماً كما يحصل أثناء تحليل نفسي. فبالنسبة لي، إن ذهابي قدماً نحو نهاية رواية ما، يعني كل مرة، إمكانية اصطدامي بعقر من حياتي ومن ذاتي لم يتم استكشافه بعد. إن الكتابة الأدبية تَعلَم أشياءً لا يعلمها ولا يدركها الآخرون، وكل كاتب يكون، في حصيلة الأمر، قيِّماً على «المعرفة ذاتها» التي يتمكّن منها المحلّل النفسي الذي يتحدث عنه فرويد. فهذه المعرفة التي تتعلق بالرغبات والمعاناة اللاشعورية، تدفع إلى مسالك تُفقد التوازن، بالضرورة.
وهكذا، فإن لم يحصل أبداً، بعد تحليلي النفسي، أن اشتبكت قدمي بقدمي فسقطتُ طريحاً على الأرض، فإني رغم ذلك وقعت ضحية نوبات قوية من فقدان التوازن مرات عدة. على المستوى العيادي، يحمل التشخيص اسم «متلازمة مينيير»، لكن بعد قليل من التروي، اتضح لي بأن فقدان الاتزان العنيف هذا، مرده ليس فقط إلى شريان أذني الداخلية الذي أصابه انكماش، وإنما أيضاً إلى المواضيع التي أقوم باكتشافها من كتاب إلى كتاب، حافراً ومنقّباً كل مرّة مسألة رغباتي.
فقدان التوازن
إن فقدان توازني الجسدي هو اختبار صادم أبعد مما كنت أتوقعه قبل أن أعيش النوبة الأولى من الدوخة. فعدم القدرة على التفريق بين الأعلى والأسفل، وكذلك إحساسي بدوار وكأنني بداخل آلة خيالية لغسل الملابس، كل هذا يخلق فوضى انفعالية تتعدّى الأعراض الجسدية من تنفّس متقطّع وحالات غثيان وتقيؤ. إنه واقع آخر، كل ما يشكّله هش ومتقلّب، يحل محلّ الواقع المألوف. فإذا لم يعد من الممكن لي حتى الوقوف على القدمين، فكل شيء يصبح موضع تساؤل.
وعلى الرغم من ذلك، فإن العلاج التحليلي قد حرّرني من كوابيسي التي كانت تمنعني من الحب من دون مذاق الرماد في فمي. وتمنعني من الارتباط بشخص آخر من دون أن أتصور فوراً لزوم فقدانه. لقد أبعد عني هذا السمّ القاتل الذي يقضي بقضاء جل وقتي في تحضير مَراثي في ذهني. لقد خلقتْ لديّ هذه الحرية الجديدة مجالاً نفسياً يمكن للخيال فيه أن يتماشى مع سبر السير الحياتية التي تكوننا، في ترابطها مع تلك التي سمح آباؤنا باطلاعنا عليها، وخصوصاً تلك التي كتموا القول فيها.
إن رغبتي الملحة في طمر الفراغات والثقوب التي قد تتخلل تاريخ أسرة ما، كانت حافزاً جدَّ قوي في كتابتي، وبالخصوص في روايتي الثانية المستوحاة من حياة أبي بالذات. فبتخيلي لحيوات أخرى غير حياتي، انطلاقاً من تاريخ أسرتي التي تندرج بداخلها سيرة حياتي، أصبحتُ أقترب شيئاً فشيئاً من حقيقتي الحميمية. إن سعادتي بكوني أحسّ نفسي متناغماً أكثر فأكثر مع من أصبحتُه بفضل التحليل وبفضل الكتابة، جعلني مع ذلك أبتعد أكثر فأكثر عن الشخص الذي اخترتُ أن أقتسم حياته في الخامسة والعشرين من عمري. تلك المرأة التي تعلّق قلبي بها والتي بصحبتها ربيت ثلاثة أطفال رائعين.
فرويد وغوستاف مالر
لقد توافق اكتشافي للنظرية الفرويدية مع استماعي أول مرة لموسيقى غوستاڤ مالر. إلّا أن هذا التلاقي الأولي مع سماع الموسيقى من طرف ذاك المراهق المولع، كان يكتنفه شيء من الإحساس بالألم. لقد كان يبدو لي آنذاك بأنني لا أفهم شيئاً من الرموز الماليرية الشاسعة شساعة الكاتدرائيات ومن بنياتها المتشتتة (مظهرياً) لدرجة كان يصعب عليّ تجميع كلّ نتفها. ومع ذلك، فإنّ هذه الموسيقى الما بعد- حداثية تركت في نفسي انفعالاً ليس له مثيل، انفعالاً يختلف كليّاً عما ألفته في المجال المريح لعالم الموسيقى، الباروك أو الكلاسيكية. وعند سماعي لأول مرة للسمفونية الرابعة لمالير أثناء حفلة موسيقية، فإن الصدمة الجمالية التي خلّفتها لديّ تمت ترجمتها عندي بردة فعل قصوى: مع نهاية العرض، وجدتُني مبللاً بل وغارقاً في دموعي. ومن الممكن أنني بكيت خلال جزء كامل من القطعة الأخيرة ومن دون أن أنتبه إلى ذلك.
المصدر: الأخبار