عبده وازن
كان حلم الفنان الياس الرحباني الذي غيبه الموت صباح اليوم، منذ أن بدأ التلحين والتأليف الموسيقي، أن يلتحق بـ”مؤسسة” الأخوين عاصي ومنصور وينضم إليها، فيشارك الأخوين تجربتهما تأليفاً وتلحيناً وتوزيعاً. لكن الأخوين وبخاصة عاصي، لم يفسحا له المجال للانضمام إليهما إلا نادراً وفي بضعة أعمال مسرحية، متيحين له الفرصة ليمنح المطربة فيروز بضع أغانٍ. كان هدف الرحبانيين هو أن يشق الياس طريقه وحده ويؤسس عالمه الخاص، من دون أن يتخليا عنه بتاتاً. وهنا كان التحدي الذي خاضه الشقيق الأصغر للأخوين الكبيرين. وفعلاً نجح الياس في تأليف ألحان ومقطوعات موسيقية تحمل توقيعه أو “دمغته” كما يقال، وهي متعددة الأجواء والأساليب، تتراوح بين الأصالة اللبنانية والمناخ الموسيقي الحديث الغربي والشبابي، بين الطابع النخبوي والطابع الخفيف. وقد حققت أغان له ومقطوعات، شهرة كبيرة وتركت أثرها في الذائقة الشعبية. لكن الياس لم يكن رحبانياً في المعنى الذي فرضته مدرسة الأخوين، ولم يكن غريباً عنها في الوقت نفسه، وهذا القدر شاءه الياس نفسه كما الأخوان.
رحل الياس الرحباني أو “الرحباني الثالث” عن 83 سنة، بعدما أصابه في العامين الأخيرين مرض ألزهايمر فراح يغوص في حال النسيان، فاقداً ذاكرته شيئاً فشيئاً. يصغر الياس شقيقه عاصي 13 سنة وشقيقه منصور15، وهو كان بنظرهما الشقيق الصغير، المتأخر عن مشروعهما الذي بدآه معاً، لكنهما ساعداه في درس العلوم الموسيقية وكانا إلى جانبه، داعمين إياه.
تلقي الياس دروسه الموسيقية أكاديمياً على خلاف الأخوين، في الأكاديمية اللبنانية أولاً ثم في المعهد الوطني للموسيقى، وقد تخرج عام 1956 وهو العام الذي ولد فيه زياد الرحباني. علاوة على تلقيه دروساً في الموسيقى طوال عشرة أعوام تحت إشراف أساتذة فرنسيين. عندما بلغ الياس العشرين من عمره (1958) التحق بإذاعة “بي بي سي” البريطانية (الفرع اللبناني) وباشر العمل معها رسمياً فلحن 40 أغنية وأنجز 13 برنامجاً. ولقيت أعماله ترحاباً في الأوساط الموسيقية والفنية.
غير أن عام 1962 كان بمثابة محطة رئيسة في مساره، فهو بدأ حينذاك الخروج إلى عالم الاحتراف الحقيقي، وراح يتعاون مع مغنّين معروفين، بعضهم ينتمي إلى مدرسة الأخوين، ومنهم المطرب الكبير نصري شمس الدين، الذي لحن له أغنية “ما أحلاها”. وباشر من ثم العمل كمخرج ومستشار موسيقي في إذاعة لبنان، وتعرّف إلى نينا خليل التي أصبحت زوجته وأم ولديه، الفنانين غسان وجاد. عمله في إذاعة لبنان فتح أمامه مجال التخصص في الشؤون التقنية، لا سيما في ما يتعلق بعالم “الأستوديو” والإخراج والإنتاج، وما لبث أن تعاون مع شركات لإنتاج الأسطوانات.
الموجة الجديدة
منذ أن انطلق الياس في عالم التلحين وكتابة الأغاني بدا أقرب إلى الموجات الفنية الحديثة، من دون أن يتخلى عن ذاكرته الرحبانية والمدرسة الرحبانية، واتجه إلى تلحين أغنيات بالفرنسية والإنجليزية، متبعاً طريق الموضة الغنائية الرائجة، بل إنه أنجز أغنيات تسمى بـ”الفرنكو أراب” كانت تلقى بطرافتها، رواجاً لدى جيل الشباب. وراجت أيضاً موسيقاه الإعلانية، التي تمكنت من فرض نفسها وخصائصها، نظراً إلى أنها صادرة عن فنان يمتلك أصول التلحين. وخاض الياس عالم الموسيقى الإعلانية بجرأة وقوة، حتى ليمكن القول إنه أسس مدرسة في هذا الفن. ويذكر الجمهور كيف حول مرة لحناً إعلانياً (باريلا معكروني) إلى أغنية للمطربة صباح (وعدوني ونطروني)، فلقيت نجاحاً كبيراً وأثارت سجالاً حول قضية هي: هل يحق للملحن أن يحول لحناً إعلانياً إلى أغنية؟
الفنان عازفاً (فيسبوك الفنان)
لا تحصى الألحان التي أنجزها الياس الرحباني بدءاً من السبعينيات، فهو كان غزيراً جداً، في حقل الأغنيات، بالعربية والفرنسية، وفي حقل الإعلانات والموسيقى التصويرية في الأفلام والمسلسلات. ومعروف أن له نحو 2500 أغنية ومعزوفة. في الموسيقى التصويرية بلغت الأفلام التي عمل فيها خمسة وعشرين قيلماً، منها أفلام مصرية، من أشهرها موسيقى فيلم “دمي ودموعي وابتسامتي” وفيلم “حبيبتي” وفيلم “أجمل أيام حياتي”، عطفاً على المسلسلات الكثيرة، ومن أشهرها مسلسل “عازف الليل”، الذي ما زالت موسيقاه تردد حتى الآن.
وضع إلياس الرحباني ألحاناً تتجاوز الخمسين للمطربة صباح وكان تعامله معها بمثابة اطلاقة جديدة له، ومن الأغاني: “كيف حالك يا أسمر”، “شفتو بالقناطر”، و”يا هلي يابا”، “قالو عني مجنوني”،”نوسي نوسي”، “جينا الدار” ، “ولد يا ولد”…. وغنى من ألحانه وديع الصافي (يا قمر الدار، قتلوني عيونا السود)، نصري شمس الدين، ملحم بركات وماجدة الرومي. وقد لحن لماجدة أغنية “عم احلمك يا لبنان” من شعر سعيد عقل، وكادت هذه الأغنية أن تتحول إلى ما يشبه نشيداً لبنانياً يردده الكثر. وتعاون مع عدد من مغني الجيل الجديد، ومنهم جوليا بطرس وباسكال صقر، اللتين غنتا له بالعربية والفرنسية. وفي 2005 صدرت أغنية “بدي عيش” التي كتبها ولحنها ووزعها موسيقياً للفنانة هيفاء وهبي، وحينذاك انتقده بعض الصحافيين لتخليه عن مستواه الموسيقي.
أغاني فيروز
أما مشاركته في عالم الأخوين رحباني والمطربة فيروز فكان قليلاً مقارنة مع غزارة ألحانه، ولم يكن عمله داخل المؤسسة بارزاً، مع أنه نجح في تلحين وإعداد بضع أغنيات فيروزية ومنها: الأوضة المنسية، معك، يا طير الوروار، كان الزمان، كان عنا طاحون… ولحن أيضاً للمطربة هدى شقيقة فيروز . وشارك في بعض المسرحيات الرحبانية، وأنتج وألَّف مسرحيات عدة ، منها: وادي شمسين (مع المطربة صباح)، سفرة الأحلام (مع مادونا)، و”إيلا”. في عام 2001 قدّم نشيد الفرنكفونية كتحية لـ52 بلداً شاركت في القمة الفرنكفونية التي عقدت في لبنان. وفي مجال الشعر، صدر له عام 1996 كتاب “نافذة العمر” ويضم قصائد وجدانية وإنسانية الطابع.
تلقى الياس الرحباني جوائز عدة، منها: جائزة مسابقة شبابية في الموسيقى الكلاسيكية 1964، جائزة عن مقطوعة “انتهت الحرب” في مهرجان أثينا عام 1970، شهادة السينما في المهرجان الدولي للفيلم الإعلاني في البندقية عام 1977، الجائزة الثانية في مهرجان لندن الدولي للإعلان عام 1995، الجائزة الأولى في روستوك بألمانيا عن أغنية “موري”، وجوائز في البرازيل واليونان وبلغاريا.
قائد الأوركسترا (فيسبوك الفنان)
كان الياس الرحباني يدمن الإطلالات الإعلامية والتلفزيونية خصوصاً، وكان صاحب نكتة ظريفة وطلة ودودة. وأسهم في برامج غنائية داخل لجان التحكيم. وهذه الإطلالات قربته أكثر فأكثر من الجمهور، ولو كانت أحياناً دون مستوى اسمه وتجربته.
المصدر: أندبندنت عربي