الجمعة, نوفمبر 22
Banner

آفاق قصيدة النثر: الفضاء الرحلي السيرذاتي في «دفتر العابر» لياسين عدنان

مروان ياسين الدليمي

يشير الناقد محمد صابر عبيد إلى أن «دفتر العابر» للشاعر المغربي ياسين عدنان عبارة عن قصيدة سير ذاتية مخصوصة بالسفر، في رحلات يقوم بها الشاعر، وثمة عدد لا بأس به من العناصر الميثاقية القرائية، التي تؤكد سيرذاتية السرد الشعري في القصيدة.

أما عن الفضاء الرحلي السير ذاتي في قصيدة النثر فإنه يراه يتخصص بسيرة الرحلة من دون مناطق السيرة الذاتية الأخرى، ويشير هذا الفضاء إلى قصيدة تحكي قصة الرحلة التي تقوم بها الذات الشاعرة، بوصفها جزءا من قصة الحياة الشعرية العامة لهذه الذات، فهو فضاء مؤسَّسٌ داخل فضاء أعم وأشمل، لكنه يفسح المجال واسعا لفاعلية التخصص الرحلي، كي تقيم حساسيتها الشعرية على أساس الرحلة، بحيث تدور القصيدة حول تجربة الرحلة بخطابها السير ذاتي، ولا تفلت منه لصالح أي تجربة أخرى.

نقد بلا مرجعيات

القصيدة / الديوان «دفتر العابر» تشتغل على هذا النوع من الفضاء في سياق طبقتين تتداخل إحداهما في الأخرى، طبقة سفلى حاضنة للتجربة، وتمثّل المركز الحكائيّ الفعليّ لحضور النسق الرحليّ السير ذاتي على نحو مباشر، وترتفع فوقها طبقة عليا طالعة من جوف الطبقة السفلى وحساسيتها وروحها، متجهة صوب فضاء تأملي خاص، يحاكي مرجعية السفلي للقصيدة والتأملي العلوي لها، ووفق هذه المعادلة النقدية يدخل محمد صابر عبيد في مغامرة قرائية لمشاهد منتخبة من القصيدة، وقبل أن ينقب في جوهر الخطاب الفني للشاعر عدنان، يضعنا في مقدمة كتابه أمام رؤيته أزاء قصيدة النثر، مؤكدا فيها على أنه في قراءته النقدية بمقاربة قصيدة النثر، يتحرر من مرجعيته النقدية الخاصة، التي كرسها في نقد هذا النوع من الكتابة الشعرية، ومن أي مرجعية أخرى، ساعيا بذلك إلى ابتكار منهجه النقدي ورؤيته من جوهر النص وحساسيته وطبيعته ومزاجه وفضائه، مستندا في هذه المهمة إلى خبرته وذائقته، ورؤيته العابرة للنظرية والمنهج والسياق والأداة والممارسة، وبأفق مفتوح لا يدين بالولاء والانتماء إلاّ إلى النص، وهو بذلك ينفتح على تجربته الذاتية بالقدر نفسه، الذي ينفتح فيه على النص الشعري، ولا يخرج عنه، ولا شك في أن خبرته وذائقته ورؤيته العابرة للنظرية والمنهج، والسياق والأداة، والممارسة تتيح له أن يلعب هذا الدور.

وفي إطار دفاعه عن قصيدة النثر، يرى أن من غير الممكن أن تولد في الفضاء الفارغ بلا مرجع، ولا يمكن أن تكون بلا هوية، فمن وجهة نظره أن من لا هوية له لا وجود له على الأرض، ويضيف أن قصيدة النثر لم تعد بوصفها شكلا شعريا مكرسا بحاجة إلى اعتراف من أحد يمنحها صك الغفران، لأنها وكما يصفها تنطوي على انتماء ذي زخم هائل بلا أوصياء، وبلا عرابين، وبلا أجندات تأتي من خارجها، لأنها فرضت نموذجها وأصبحت واقعا شعريا مهيمنا شاسع الإجراء والحضور والتداول.

قصيدة النثر والأسئلة

تحت عنوان «مدخل في أسئلة قصيدة النثر: الواقع والإشكالية» يطرح جملة أسئلة، وفي معرض الإجابة عنها يتوصل إلى أن أسئلة الأجناس والأنواع الأدبية دائما ما تفضي إلى حوار يثري خطاباتها ويعمق النظر النقدي والثقافي حول قضاياها.. وفي ما يتعلق بقصيدة النثر يجدها أشد الأنواع الشعرية المعروفة في الساحة الشعرية العربية، اشتباكا وتعقيدا وتداخلا، وإثارة وسجالا، ويصل في قراءته إلى أن كثيرا من معطيات جدلها، انصرف نحو ثلاثة مفاهيم مركزية: المرجع والهوية والنص، في سياق تلاقي وتفاعل واندماج هذه المفاهيم للوصول إلى حالة نموذجية تكون فيها قصيدة النثر، في أكفأ صورها وأرقى أشكالها، لتوكيد قوة حضورها في مشهد الشعربية العربية.

مجال الأسئلة حول قصيدة النثر يبقى مفتوحا لدى محمد صابر عبيد، ومن هنا يجد أن السؤال الأكثر إشكالا الذي من الممكن أن يطرح في هذا الصدد هو: هل يمكن وضع ضوابط ومواصفات عامة لقصيدة النثر؟ وفي إجابته يشير إلى أن سؤالا يطرح بهذه الطريقة لا يتفق مع خصوصية قصيدة النثر وطبيعتها وحساسيتها النوعية، لأن المواصفات العامة كلها التي يمكن وضعها في هذا السبيل قد يصدق أكثرها على قصيدة التفعيلة أيضا، بحيث لا تنطوي على خصوصية تشكيلية وتعبيرية مخصوصة بقصيدة النثر. كما أن لا مواصفات عامة تنطبق على القصائد كلها، فالإيقاع في قصيدة النثر يختلف بين قصيدة وأخرى، وهذا من وجهة نظره يشكل خصوصية وتفردا تتناسب مع العصر على نحو ما. فالإيقاع يتوفر في اللغة والصورة ووسائل التعبير الأخرى الحاضرة فيها لحظة القراءة، ويستمر في هذا السياق، فينظر إلى من يسعون للبحث عن قوانين صارمة تضبط الحراك الجمالي الأدبي للقصيدة، على أنهم لم يفهموا أحوال قصيدة النثر، وأن بحثهم إنما هو بحث عن نهايتها في سياق المنهج القسري، لوضع قوانين صارمة تقلل زخمها الجمالي الحداثي، وتعرقل حراكها، كما ينظر أيضا إلى من يعتقدون أن الحرية فيها غير محدودة، وأن حماسهم في إطلاق الأمنيات والأحكام بلا حدود، لا يناسب قصيدة النثر، في المقابل يعتقد أن كل شيء يجب أن يكون محدودا، كي يكون معقولا ومناسبا وضروريا وفاعلا.

في تناوله للقصيدة الديوان «دفتر العابر» يعرض لنا الطبقتين السفلى والعليا من التشكيل المشهدي للفضاء الرحلي السير ذاتي الشعري، حيث تبدأ الصورة الشعرية بالعمل من الأسفل نحو الأعلى، إذ تبدأ الطبقة السفلى الخاصة بالمحكي بتقديم صورتها الكتابية في أسلوب عرض كتابي شكلي ينتمي للنثر أكثر من انتمائه للشعر.

وسائل عابرة للموروث

هناك الكثير من الأفكار التي يطرحها حول الخصوصية الكامنة في الكتابة الشعرية الجديدة، التي تتقدمها قصيدة النثر، حيث يرى أنها تنفتح داخل جسد الجنس القديم «الشعر» بوسائل عابرة للموروث، في تقاناتها وحساسيتها وعزل فكرة المكابرة الفارغة للدفاع عن النموذج، والإبقاء على وسائل التعبير القديمة، بما انطوت عليه من إمكانات فقدت ماءها وذخيرتها، ومن طروحاته أيضا، أن الشاعر ينبغي أن لا يكون معنيا بالتجنيس في الحالة الإبداعية الخاصة، لحظة التدوين الكتابي، بدرجة نظرية تفوق فاعلية الإبداع، لأن الناقد هو من يجب أن يكون معنيا بذلك في إطار وظيفته النقدية.

أما ما يتعلق بمصطلح الشاعرية، فيرى عبيد، أن قصيدة النثر أعادت مراجعة الحساب معه، باعتباره يتصل على نحو ما بالغنائية والصفة العاطفية في التعبير، ومن وجهة نظره فإن هذه المسألة لا تتعلق بعنصر الشاعرية ودرجاتها وقوة حضورها في جنس الشعر، على أساس أنها صفة رومانسية ليست موجودة في الأنواع الأدبية كلها وحسب، بل حتى في الأنواع غير الأدبية أحيانا، وربما في كل شيء بحسب طبيعة تلقي الأشياء والتعامل معها عاطفيا وانفعاليا، لكن المسألة من جانبه تتعلق بوجود هدف قصدي وسير واضح ومحدد باتجاه تمثُّل النوع وإنجازه وتكريسه وطريقة خاصة للتعامل مع صفة الغنائية التي تتلون ضرورة حضورها بين قصيدة نثر وأخرى. وتحت عنوان» قصيدة النثر: توابل الكلام» يتناول التاريخ الشعري العربي لكنه يضعنا أمام عملية مقارنة بين قصيدة النثر والتوابل، باعتبارها أحد أعظم الاكتشافات المذهلة في التاريخ، ومرحلة مهمة من مراحل تطور الحياة والحضارة والاستمتاع بمعطياتها. ويسجل على ماكنة القصيدة العمودية، أنهم كانوا بمثابة حراس الفضيلة الذين يدافعون عن التراث الشعري العربي، ملخصا بقصيدة الوزن، ولهذا بقي المطبخ الشعري العربي مثقلا بالوزن والقافية في تكرار ممل، لا يسمح لثورة التوابل الحاصلة في كل أرجاء العالم، أن تتسرب منها رائحة بسيطة إلى أدوات هذا المطبخ وفضائه الشمي، فتوقظ فيه رغبة التغيير والتحول والتطور، نحو فضاء آخر أكثر حرية وأقل عنفا، وحتى أن قصيدة التفعيلة في ظل هذا الحصار كانت ولادتها قيصيرية، كأنها ولادة محرمة تدافع عن خطيئتها. ووفق هذه الرؤية يصف قصيدة النثر باعتبارها النوع الشعري العربي الأقرب إلى ما اصطلح عليه «شعرية التوابل» في عملية استعارة واضحة وجريئة لصورة «التوابل» التي تطيب الطعام وتنقله من حال إلى حال، ولكن من بوسعه أن يصنع من هذا الكلام قصيدة نثر مبهرة ببهارات طازجة، تجعل منها قصيدة نادرة سوى شعراء نوادر أفذاذ لا يتكررون كثيرا.

طبقات الصورة الشعرية

في تناوله للقصيدة الديوان «دفتر العابر» يعرض لنا الطبقتين السفلى والعليا من التشكيل المشهدي للفضاء الرحلي السير ذاتي الشعري، حيث تبدأ الصورة الشعرية بالعمل من الأسفل نحو الأعلى، إذ تبدأ الطبقة السفلى الخاصة بالمحكي بتقديم صورتها الكتابية في أسلوب عرض كتابي شكلي ينتمي للنثر أكثر من انتمائه للشعر، وذلك عن طريق الامتداد الكلامي المستقيم على طول الأسطر الكتابية المتاحة في سياق سردي متواصل. ومن ثم يتحول هذا الامتداد الكلامي إلى تناوب مختلف ومغاير في حجم السطر الكتابي على الطريقة الشعرية المعروفة، القائمة على حجم الدفقة الشعورية، التي قد تمتد في سطر شعري معين أطول أو أقصر من سطر شعري آخر، والمقطع الرحلي السير ذاتي الشعري الذي اختاره لمقاربة الصورة المشهدية التي تبرهن على فرضيته هو أول مقطع يظهر على هذه الصورة في القصيدة، حيث تبدأ الطبقة السفلى في رواية مشهد رحلي سير ذاتي شعري على هذا النحو: «ككلبٍ عجوزٍ، كان المحرِّ ك المتعَب يلهث في حافلة الجنوب التي عبرَت المتوس باتجاه غِبْطة الجغرافيا هناك. في باريس، تحكي الأسطورة، يصير للحياة طعْم الكرز……».

سيميائية الهوية

يتوقف في قراءته عند فضاء العنوان، ويرى أن الكتاب، يتقصى المسافات والأزمنة والأمكنة والأشياء، بحثا عن مصير سيميائي يجعل من جزأي العنوان وسيلة مناسبة للتعبير عن الهوية، فالجزء الخبري الأول «دفتر» يحيل على معان كثيرة تتعلق بالكتابة ووسائلها وأدواتها وآلياتها ونياتها ومقاصدها، وينطوي دال «كتاب» على استقرار كتابي حاسم وناجز ومكتمل، وغير قابل للتبديل والتغيير، بحكم أنه كلام قار تحول بنصوصيته الخطية إلى خطاب متداول بين يدي القراء. بينما «دفتر» على المستوى الدلالي يمتلك حرية التغيير والتبديل، ما شاء للكاتب أن يغير ويبدل، حين يجد حاجة وضرورة لذلك قبل تحوله إلى كتاب. ويضيف في هذا المنحى إلى أن معنى العبور يقترح حدين زمانيين ومكانيين، تفصل بينهما لحظة العبور ومناسبته وهويته، ليكون الحد الأول هو الحد المعبور، وقد اجتازه العابر نحو الحد الثاني المعبور إليه زمانا ومكانا، وتكون شخصية العابر هي الشخصية الرئيسة الفاعلة في عملية العبور، وإنجاز الفعل على نحو بَيّن وواضح للعيان.

*الفضاءُ الرحليُّ السيرذاتيُّ في قصيدة النثر، معماريّةُ التشكيل الشعريّ الملحميّ في «دفتر العابر» لياسين عدنان: المؤلف محمد صابر عبيد

الإصدار: الآن ناشرون وموزعون ـ عمَّان

الطبعة الاولى 2021

عدد الصفحات 165

كاتب جزائري

المصدر:القدس العربي

Leave A Reply