عمار نعمة – اللواء
إنها مرحلة صعبة جدا هذه التي يمر القطاع الصحي فيها لا تنفصل بطبيعة الحال عن الظروف التي تحيق بلبنان، وذلك نتيجة الأزمة المالية والنقدية في موازاة تلك المتعلقة بـ«كورونا»، ما يفتح الباب أمام نظرة غير متفائلة للقطاع وسط بداية هجرة للكفاءات من أطباء وممرضين بلغت المئات ويتنبأ كثيرون بتوسعها.
ويبدو من الطبيعي أن تنصب الاستفهامات حول ذلك ومن هو المسؤول عنه وحول كيفية مواجهته. وتبدو نقابة الأطباء في واجهة المعنيين بهذه الهجرة وهي التي كانت، كغيرها من النقابات، عرضة للتسييس ولتحاصص أهل الحكم على أساس طائفي ومذهبي. وهو ما يؤدي الى تراجع متزايد لدور النقابة كغيرها من النقابات والاتحادات في لبنان بعد طغيان التناتش السياسي المصلحي منذ التسعينيات خاصة، يرى بعض المتابعين.
يشير رأي سائد لدى كثير من الاطباء الى ان المجلس يفتقد الصفة العلمية الكاملة التي باتت انعكاسا للتغييرات الاجتماعية والديموغرافية في البلاد. فقد كان المجلس تاريخيا بقيادة أساسية من الجامعات والصفة العلمية طاغية فيه، لكن منذ الحرب الاهلية وفي الثلاثين سنة الماضية، صارت التوزيعات نتيجة للصراعات الاجتماعية مع سيطرة أطباء الاطراف على حساب أطباء مستشفيات بيروت التي كانت تعتبر مؤسسات أكاديمية النزعة واستقلالية الى حد كبير. فمثلا لم تغب السياسة عن «الجامعة الاميركية» و«أوتيل ديو» لكن ذلك لم يؤثر على علوّ المستوى الاكاديمي. واليوم هيمن التأثير الحزبي على المستوى الاكاديمي وبات مجلس النقابة منتقى بدقة تحاصصية كبيرة.
ذلك لا يعفي أطباء كثر فقد طغت هموم المصلحة الذاتية مثل الراتب التقاعدي للطبيب مع انها مهنة حرة، ومن غير المنطقي أن ينتظر الطبيب راتبه التقاعدي الزهيد بعد عشرات السنوات من العمل المفترض ناجحا. وذلك يقدم مثالا على طبيعة تفكير أطباء كثر في هذه الايام.
يضاف ذلك الى أن القطاع لم يعد في مستوى التحديات وثمة مشاكل متراكمة ولم يحصل تحديث لآليات النقابة على صعيد التحقيقات والفضائح المتكررة ما ضرب سمعتها كما يقول أكثر من طبيب إختار الهجرة عن البقاء في وطن لا أمل منه.
ومن أسف مجلس نقابة الأطباء اليوم أن تراكم الازمات أدى الى انفجارها في وجهه بينما يلفت البعض في النقابة النظر الى ان أداء النقيب والعلاقة المتردية مع وزارة الصحة ونقابة الصيادلة وكارتيل مستوردي الادوية، قد أضعفوا دور النقابة ليصبح هامشيا.
بالنسبة الى وجهة النظر هذه، فإن اداء النقابة في هذه المرحلة كان متواضعا واقل من المتوقع ولذلك اسبابه الموضوعية والعديدة.
تحاصص سياسي طائفي
من المفيد أن نشير هنا الى طغيان التوزيع الطائفي على مجلس النقابة التي يرأسها عرفا مسيحي وهو مقرب اليوم من رئيس الجمهورية كما يؤكد أخصام النقيب شرف أبو شرف، باستثناء مرحلة محمود شقير الشيعي لمرة واحدة لم تتكرر وكانت الاستثناء الذي كرّس القاعدة التي تطبعها اليوم المداورة بين «القوات اللبنانية» والعونيين.
يردد كثيرون أن مرحلة أبو شرف الذي أمضى نحو ثلثي ولايته المكونة من ثلاث سنوات ومن غير المسموح له طبقا للنظام الداخلي التجديد ولكن يمكن له العودة بعد ولاية خلفه، كما مرحلة غيره من المداورين معه سياسيا على رأس النقابة والمجالس التقليدية المتعاقبة بطبيعة الحال، باتت مهددة مع تصاعد التململ الشعبي في البلاد وبعد أن بدأ التغيير من نقابة المحامين مرورا بالجامعات الخاصة في انعكاس مع مرحلة ما بعد.
وتسرد وجهة النظر هذه أمثلة أخيرة على ضعف القطاع مثل موضوع لقاح «الإنفلوانزا» الذي كان تاريخيا في عهدة اطباء الاطفال والصحة العامة، وقد ضُرب التوازن مع نقل المسألة الى عهدة الصيدلي ما سبب إرباكا للعائلات ولعلاقة الاطباء بالصيادلة.
وأثار موضوع الوصفة الطبية الموحدة ضجة وهي التي كان يفترض بها أن تؤمن آلية رعائية متوازنة. والوصفة تطبعها النقابة ويستخدمها الاطباء ويعود مردودها الى صندوق تعويضات الأطباء.
يقول أحد الاطباء المتابعين لملف النقابة إن موضوع الـ«NS» أثار بلبلة وهي بمثابة خانة تكتب الى جانب الدواء والفحوصات وتعني رفض التبديل وذلك بعد دخول دواء مسيل للدم يفتقد للجودة الى البلاد في ظل الافتقاد الى المختبر المركزي، واستعمله الكثير ممن يعاني انغلاقا في شرايين القلب ما أدى الى اغلاق «الراسورات» المستعملة.
والواقع ان الخانة وضعت لكي يتحكم الطبيب بالدواء ومنع الصيدلي من تحديد الدواء ما وفر ميزة تفاضلية للطبيب لكن من دون آليات تطبيقية فاستغلت شركات الادوية علاقاتها مع بعض الاطباء لدفعهم الى تسويق أدوية تريدها. علما ان تلك الخانة أدت الى غلاء سعر الدواء بعد توحيده من قبل الاطباء.
وبعد أخذ ورد تم إلغاء تلك الخانة بعد ضغوطات كثيرة من قبل المستوردين، فتقلص دور الطبيب ولم تعد للوصفة الموحدة قيمتها الكبيرة وبات سعر طباعتها أكبر من دون مردود مأمول لصندوق التعاضد. علما أنه لا يمكن العمل من دون الوصفة التي يريد معظم مجلس النقابة إلغاءها بينما يرفض النقيب ذلك، اذ لا جهة ضامنة تصف الدواء او تطلب فحصا ما من دونها. وبهذا خرج نقيب الصيادلة فائزا وطبعا المستوردون لسوق يبلغ مليارا و800 مليون دولار أي بين 80 و90 في المئة من حجم السوق.
يحمل كثيرون تراجع دور النقابة مسؤولية ذلك، وكان ذلك وغيره وراء الدعوات التي تصاعدت لترك النقابة والتوجه نحو نقابة الشمال في طرابلس.
والحال أن نقابة الشمال لا تتمتع بإرث نقابة بيروت التي تعد أكثر عددا وقوة، لكن دعوات برزت للهجرة إليها خاصة وانها بدت متوافقة مع نبض انتفاضة 17 تشرين كما انها تتميز بحسنات وتقديمات غير موجودة في نقابة اطباء بيروت، حسب هؤلاء.
ولدى هؤلاء الذين يودون النزوح الكثير من الأسئلة حول قضايا تهمهم مثل براءة الذمة للنقابة، قانون حصانة الطبيب، المعاش التقاعدي، حقوق الاطباء من ضمان صحي شامل، الوصفة الطبية التي يصفونها بالسوداء نسبة الى سوق سوداء لبيعها من دون استفادة الاطباء، الهدر وعدم محاسبة المقصرين وحتى زيادة الاعباء على الاطباء بزيادة الاشتراكات وزيادة سعر تلك الوصفة وغيرها من الأسئلة..
وكان من المأمول أن يستتبع فوز النقيب ملحم خلف في نقابة المحامين نجاحات في نقابات حرة أخرى. وقد جمع لوبي متعاطف مع 17 تشرين اصواتا لتحقيق خرق في نقابة الاطباء لكن تم تمديد المهل حتى حزيران المقبل بذريعة وباء «كورونا».
ولا تزال مجموعة من الاطباء من مستشفيات «الاميركية» و«البلمند» و«الروم» و«أوتيل ديو» و«اليسوعية» تستعد للمعركة المقبلة فور عقدها عبر التنسيق بين أطباء الجامعات لإقامة تكتل إنتخابي. لكن نظرة واقعية الى الأمور تشير الى أن الكثير من الاطباء لا زالوا مرتبطين سياسيا وزبائنيا مع السلطة وتراهن السلطة على عامل الوقت والتعب والهجرة للقادرين ماديا.
والواقع أن هجرة الاطباء جاءت نتيجة عملية حسابية بسيطة على صعيد المردود المادي وتعززت خاصة بعد كارثة 4 آب فباتت الحسابات خارج إطار العاطفة بل بمنطق خاصة وأن الكثير من الاطباء يستطيعون ذلك وينتمون الى الطبقة الوسطى التي رفدت لبنان بعدد كبير منهم.
أبو شرف: لا نسمع سوى الانتقادات
وكأن كل ذلك لم يكف حتى فقد 10 أطباء حياتهم في مواجهة مستميتة مع «كورونا»، علما بأن اعداد الاصابات لدى القطاع التمريضي تجاوزت تلك لدى الاطباء.
ويؤكد نقيب الأطباء البروفسور شرف أبو شرف أن الهجرة تشمل خاصة الكفاءات وأصحاب الاختصاصات الذين يعلم الخارج تماما كفاءتهم. وثمة خشية على من يذهب الى الغرب مثل اوروبا واميركا حيث يرجح ان يستقر مع عائلته وابنائه، بينما يمكن لمن خرج الى الخليج العودة.
ويسترسل طويلا في تعداد أسباب الهجرة، وهي معيشية في الدرجة الاولى ومنها تأخر الجهات الضامنة في البلد عن دفع المستحقات للاطباء ضمن مهلة زمنية قصيرة فتسدد بعد سنة او سنتين، وعدم ربط التعرفة المتواضعة بمؤشر غلاء المعيشة وسط انهيار سعر صرف الليرة أمام الدولار وهي في الاصل لا تدفع مباشرة الى الطبيب بل عبر اللجان الطبية او المستشفيات، علما بأن الاطباء يعملون تقريبا مجانا. ويشير ساخرا الى ان التعرفة الرسمية لحالة العمل الطبي في المستشفى هي 7500 ليرة من اكثر من عشر سنوات «وهذا مهين للطبيب وعندما يطلب فروقات يتعرض للملامة».
كما من أسباب الهجرة موضوع صعوبة السحوبات من المصارف ونقص المستلزمات وغلائها، ويضيف على ذلك تعرض الاطباء الى الاعتداءات والتشهير.
لكن ما هو دور النقابة؟
لقد أثرنا قضايا كثيرة لكننا لا نلقى آذانا صاغية بل انتقادات مستمرة، يقول. «تقدمنا بمشروعَي قانون الى مجلس النواب حول حصانة الطبيب وتغريم وتجريم كل من يعتدي على طبيب أو عامل في القطاع الصحي، وغيرهما، تدرسهما لجنة الادارة والعدل. وما يحصل من افلات للمعتدين من العدالة يعزز هجرة الطبيب ويضرب سمعة لبنان كمستشفى الشرق». ويشدد على ضرورة دعم اكبر من الدولة للأطباء والطاقم التمريضي ماديا وقانونيا ومعنويا.
وفي موضوع الوصفة الطبية الموحدة يؤكد «أنني من بدأ بها في العام 2011 مع نقيب الصيادلة حينذاك زياد نصور وكانت الغاية منها منع التزوير ولكي نعرف ما الذي يكتب وما هي الأدوية ولمن توصف ولنتأكد من أن الدواء في حاجة الى وصفة ولا يعطى من دونها». إضافة الى «حصر عملية البيع وهكذا نراقب العملية برمتها ونحافظ على صحة المريض ويصبح في إمكاننا كتابة دواء الجينيريك وهو أرخص بكثير من البراند. يستعمل الجينيريك في الغرب بنسبة 80 في المئة بينما نسبته عندنا لا تتجاوز 20 في المئة».
يريد أبو شرف منع اختفاء الادوية من السوق وتهريبها وتخزينها «والأخذ والرد حول الموضوع كان سببه عدم الالتزام بالوصفة الطبية من قبل الصيادلة بها فرفعنا الصرخة».
وفي موضوع لقاح «الإنفلوانزا» المثير للجدل، يلفت نقيب الاطباء الانتباه الى انه تم التوافق مع نقابة الصيادلة على ان يباع اللقاح في الصيدليات بناء على وصفة طبية، ولا يُعطي اللقاح الا الطبيب، ولا يوصف دواء الا بوصفة طبية كالمضادات الحيوية وأدوية الامراض المزمنة من دون وصفة طبية موحدة. ويأسف كون لم ينفذ إلا بيع اللقاح من قبل الصيادلة بحجة القانون، متجاهلين عرفا ناجحا منذ 50 سنة عندما كان الطبيب يحصل على اللقاحات ويحفظها مبردة في عيادته ويعطيها للمريض عند الحاجة وفي شكل آمن.
وأدى عدم الالتزام بذلك الى انخفاض نسبة التلقيح 30 في المئة وهو ما ادى الى ظهور بعض الامراض التي كانت اختفت بعد ان كان صنف لبنان في المركز الاول في نظام التلقيح في المنطقة.
ويشير الى ان وزير الصحة الدكتور حمد حسن وعد بأن يعيد النظر في الأمر بعد تجربة فاشلة دامت ثلاثة أشهر «ولا زلنا ننتظر». وعلى صعيد العلاقة مع الوزير، يؤكد نقيب الاطباء ان لا مشكلة معه فهو نشيط ومندفع «لكن لدينا وجهات نظر مختلفة».
ويشير بأسى الى ما حدث مع انفجار المرفأ الذي دمر أربع مستشفيات مع 200 عيادة وسط كفاح صعب مع «كورونا» وباتت الشكوى تجمع الكل والموضوع يفرض التنسيق بين الوزارات والبلديات والمحافظات والصليب الاحمر والمستشفيات واعتماد «داتا» مشتركة.
هو يقلل من موضوع مطالبات أطباء بالانتقال الى نقابة الشمال ولا يصفه بالظاهرة. «سأقول بصراحة، هناك فريق اعترض على عملنا في تنظيم عمل الجمعيات العلمية والمؤتمرات بعد ان كانت الامور فوضوية، واردنا تنظيم الامور لمنع الهدر المالي. لقد وجدنا مخالفات رهيبة في ادارة امور عمل المؤتمرات كمكان دفع الضريبة وكيفيتها وامور مالية تخص الموظفين مع الضمان وغيرها.. ما يحصل من اعتراض ليس علميا بل ماليا وانا لا احتفظ بوجهة نظر سيئة النية بل ما كان يحصل جاء انعكاسا للجهل الذي كان سائدا وقد كلفنا نحو خمسة ملايين دولار».
يضيف: للنقابة شخصية معنوية لا تمتلكها الجمعيات، لقد اهدرنا وقتا على حل مشاكل متراكمة وقمنا بتنظيم جديد للمؤتمرات وللجمعيات وبات كل شيء تحت مجهرنا لنسهل الامور القانونية مع الجهات الضامنة وتلك الرسمية. وقد وافقنا عدد من الاطباء على عملنا ومن الطبيعي ان يحصل بعض الارباك في اي نظام جديد نعمل على تجاوزه وهذا ضروري كون للأمر مسؤولية قضائية. ويبقى قرار التنفيذ بيد الجمعية المعنية بينما تشرف النقابة على حسن سير الامور قانونيا.
حلّ أبو شرف نقيبا في العام 2019 وولايته مستمرة حتى العام المقبل وهو يقر بأن تمديدا للمهل حصل في انتخابات النقابة حتى حزيران المقبل. ففي كل سنة يتم انتخاب 4 اعضاء على ان يصبحوا 8 اعضاء في السنة الثالثة وقد وصلتُ على رأس النقابة مع 8 اعضاء وكان هناك اعضاء انتخبوا من قبل لثلاث سنوات منهم من انتهت ولايتهم في حزيران الماضي ومنهم من ينتهي في حزيران المقبل، وقد حصل التمديد نتيجة الوباء وليس بسبب الخشية من الخسارة ونريد تحسين الوضع النقابي للطبيب من حيث التعرفة والضمان مدى الحياة والتقاعد.
وفي كل الاحوال لا تبدو حجة «كورونا» مقنعة على صعيد مجلس النقابة، والتغيير الذي وإن خمد كثيرا في البلاد، لكنه سيتخذ اشكالا متعددة في ظل الكارثة الاقتصادية القائمة التي لا تبدو قريبة الحل وقد لا تكون النقابة بمنأى عنه، بينما تحضر كتلة من الأطباء لخرق «الهيمنة الحزبية على النقابة».