خالد ابو شقرا – نداء الوطن
هل تقصّد “الحاكم” تمرير هذه الرسالة مع فورة الحديث عن صندوق تثبيت القطع currency Board وما يعنيه ذلك من سحب الإمتياز التاريخي، وأحد أهم الأدوار المنوطة بـ”المركزي” والمتمثل باصدار العملة و Seignior age وإعطائها قوتها الإبرائية من بين يديه؟ أم إنه كان مجرد مُمرر لحُرم السلطة والممسكين بمفاتيحها، لعدم التعرض لتمويل الدولة بفسادها وكل أزلامها، حيث ان قطع ارزاقهم في هذا المكان يساوي قطع علاقتهم مع قواعدهم الشعبية وبالتالي موتهم سياسياً؟ أم إنه اعتمد استراتيجية “جحا” بتعليم الحمار الكلام، حيث ربط تحرير سعر الصرف بالتوصل الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي؛ ولحينها إمّا تنضب الاحتياطيات وإمّا يقضى على البلد وإما يخرج هو من سدة المسؤولية.
حقبة التثبيت.. ولّت
“الأكيد ان حقبة تثبيت سعر الصرف إنتهت إلى غير رجعة مع نفاد الاحتياطي بالعملات الأجنبية، وتحوله إلى سبب من أسباب الإنهيار في الآونة الأخيرة، إلا ان ذلك لا يعني أن الوقت الحالي ملائم لاعتماد نهج التعويم المطلق”، يقول الخبير الاقتصادي البروفسور روك-أنطوان مهنّا، “فهذا مرتبط بنجاح المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والحصول أولاً على الدعمين المعنوي الذي يعيد الثقة، والمادي الذي يؤمن كتلة نقدية بالعملة الصعبة”. من بعدها تتطلب عملية تغيير سعر الصرف 3 أمور أساسية، بحسب مهنا: توحيد أسعار الصرف الثلاثة الاساسية أي السعر الرسمي على 1515، والمنصة 3900، وسعر السوق الذي يفوق اليوم 8600 ليرة. تحديد شكل النظام الجديد والذي ممكن ان يكون باعتماد “صندوق تثبيت القطع”، أو اللجوء إلى نظام التعويم ضمن هامش Crawling peg الذي يسمح بالاستفادة الكاملة من السمات الرئيسية لأنظمة الصرف الثابتة، بالإضافة إلى مرونة نظام سعر الصرف العائم ووقف الاعتماد على الاحتياطي من العملات الصعبة لطباعة المزيد من الليرة.
لغاية الساعة ما زالت نسبة كبيرة من السلع والخدمات تدفع على أساس سعر 1515 أو أعلى بقليل، ومنها: القمح، الطحين، الوقود، الدواء، قروض المصارف للافراد من المقيمين، وكل معاملات الدولة وأكلاف التعليم الرسمي والضرائب والرسوم وفواتير الاتصالات الخلوية والارضية، ومصالح المياه وحتى مولدات الأحياء الخاصة. أما في حال تحرير سعر الصرف من دون ضابط إصلاحي ورقابي وممول خارجي كبير، فان النتائج الاقتصادية والاجتماعية ستكون وخيمة. حيث ستنهار الليرة وتحلق معدلات التضخم وتفلس الشركات وتتفكك مفاصل القطاع المصرفي. خصوصاً ان مصرف لبنان سيكون عاجزاً عن وضع كتلة نقدية كبيرة بالليرة توازي المتطلبات الجديدة للأفراد والأسر. وبالتالي لن ترتفع رواتب القطاع العام، وستزداد القيود على سحوبات المودعين بالليرة وسُيخنق الإقتصاد أكثر. أما في حال تهوّر مصرف لبنان في طباعة كمية كبيرة من الليرة ووضعها في التصرف فسيخلق حالة قريبة من فنزويلا بحيث قد يصل سعر الصرف إلى معدلات خيالية.
مصير الدائنين والمدينين
دائماً ما يأخذنا تحرير سعر الصرف إلى مصير القروض من البنوك المدولرة بنسبة تفوق 75 في المئة. فهناك نحو 30 مليار دولار من القروض على المدينين تسديدها بحسب سعر الصرف الجديد، وهو عملياً قد يكون أمراً مستحيلاً. تعميم مصرف لبنان الوسيط رقم 13260 الصادر في آب 2020 حل جزءاً من المشكلة، حيث فرض تسديد قروض الاعمال الداخلية بالدولار المحلي أو “اللولار”، والقروض لغير المقيمين بالدولار الحقيقي، ولم يبق إلا شريحة المقترضين الافراد، الذين سيجرى في المستقبل احتساب قروضهم وفق وحدة Unite تُحدد قيمتها قياساً إلى الدخل. وقد تترافق هذه العملية أيضاً مع تمديد الفترة الزمنية لتسديد القروض وتخفيض أو حسم الفوائد، وغيرها الكثير من التدابير العملية التي يمكن اللجوء إليها. أما الأخطر فهو وجود ودائع بقيمة 114 مليار دولار سيشكل سحبها على أساس سعر صرف السوق كارثة بكل ما للكلمة من معنى، نظراً لتسببها برفع الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية إلى معدلات غير مسبوقة، حيث انها ستتحول إلى الدولار حكماً بشكل مباشر وغير مباشر، “الأمر الذي يقودنا إلى حتمية دفع الودائع بالدولار”، يقول مهنّا. “وهذا ما يصبح ممكناً بعد اعادة هيكلة ورسملة القطاع المصرفي، وإقرار قانون “الكابيتال كونترول”، وتنفيذ الاصلاحات وتوحيد سعر الصرف وعودة الثقة بالمصارف وتفعيل قدرتها على العمل بشكل طبيعي وتلقيها للودائع. عندها يصبح بامكان المصارف جدولة دفعات المودعين بالدولار على فترات محددة. وهذا ما حدث في كل من قبرص واليونان”.
في التجارب الدولية القريبة تظهر مصر كنموذج يمكن الاهتداء به. فصحيح ان الانتقال التدريجي إلى تعويم الجنيه أفقده نحو 50 في المئة من قيمته إلا انه وصل إلى سعر 17 جينهاً مقابل الدولار وثبت عنده. وذلك بعد ضخ صندوق النقد الدولي حزمة مساعدات بنحو 12 مليار دولار. في لبنان الوضع قد يكون مختلفاً لكنه ليس بعيداً، “فالتفاهم مع صندوق النقد من ضمن سلة الاصلاحات المطلوب تنفيذها في مختلف القطاعات، وتوحيد سعر الصرف على المستوى الاقرب الى سعر السوق عند حدود 6 أو 7 آلاف ليرة سيترك انعكاسات سلبية على المدى القصير من تضخم وارتفاع في الاسعار، ليعود ويبدأ الوضع بالتصحيح التدريجي”، برأي مهنّا. “بيد أن الاستمرار في السياسة القائمة على هدف هدم الهيكل فوق رؤوس الجميع للتهرب من المسؤولية والمحاسبة، ستزيد كلفة الانقاذ وسترفع معها سعر العملة الموحدة إلى مستويات أعلى عند تعويمها في المستقبل”، كما يقول.
من هنا فان المطلوب إعتماد خريطة طريق لتحديد الوقت المناسب لتحرير سعر الصرف، وليس التعويم الكلي مثلما أشار الحاكم.