كلّما أزيل مطبّ من أمام التدقيق الجنائي وُضع آخر. بعد إقرار القانون الذي علّق العمل بالسرية المصرفية، انتقل النقاش إلى تفسيره. ثمة من يريد أن يخلص إلى أن القانون لا يشمل التدقيق في حسابات المصارف المفتوحة في مصرف لبنان. وفي ذلك سعي واضح إلى ضرب التدقيق مجدداً، إذ لا قيمة له إذا لم يشمل هذه الحسابات. نقطة أخرى لا تزال مسار جدل، وهي مسألة «التوازي» في التدقيق بين مصرف لبنان والمؤسسات والإدارات العامة. نقاشات النواب كانت واضحة في الحالتين: التدقيق يشمل كل الحسابات المفتوحة في مصرف لبنان، والتوازي لا يعني التزامن بل توسيع دائرة التدقيق ليشمل باقي المؤسسات، خاصة أن هذا التدقيق قد انطلق فعلاً في المصرف المركزي. وبالرغم من تعطيله من قبل رياض سلامة، إلّا أن القانون وجد ليُزيل مبررات هذا التعطيل لا ليزيد الغموض.
يكاد ينتهي الشهر الأول من مهلة السنة المخصصة لتعليق أحكام قانون السرية المصرفية لغايات التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان وحسابات الوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة، من دون أن يُحرَز أي تقدّم. وكما كان متوقعاً، بدلاً من البدء بتنفيذ القانون رقم 200 الصادر في 29 كانون الأول الماضي، تحوّل النقاش إلى تفسيره. أول من طرح تساؤلات بشأن ذلك هو شركة «ألفاريز» نفسها. فبعد أن توجّه الوزير غازي وزني إليها برسالة يُعلمها فيها بإقرار القانون (29/12/2020)، سائلاً عن مدى استعدادها للاستمرار بالعقد، أتته رسالة جوابية من المدير الإداري للشركة جيمس دانيال (6/1/2021) تتضمن أربع نقاط تريد الاستفسار عنها. في الرسالة، التي اطلعت عليها «الأخبار»، يبدو جلياً أن الشركة لا تزال غير واثقة، بالرغم من إقرار القانون، أن مصرف لبنان سيتعاون. سؤالان أساسيان إذا عُرف الجواب عليهما، أمكن القول إن العقبات الأساسية أزيلت من أمام التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. في الأول تستفسر الشركة عما إذا كان القانون الجديد يجيز لها الاطلاع على حسابات المؤسسات الخاصة لدى مصرف لبنان، وفي الثاني تستفسر عما إذا طرأ أي تعديل على موقف حاكم مصرف لبنان الرافض لتسليم الشركة معلومات عن هيكلية مصرف لبنان وعمله التنظيمي وقواعد الحوكمة المعتمَدة لديه، بحجة أن ذلك يشكل انتهاكاً لقانون النقد والتسليف.
«ألفاريز» لا تثق بتعاون مصرف لبنان
مضمون رسالة «ألفاريز» نقله وزير المال بكتب رسمية إلى كل من رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة وحاكمية مصرف لبنان. في رسالته إلى الأخير طلب التعاون بشكل كامل مع المكلّفين بإجراء التدقيق الجنائي تنفيذاً لقرار الحكومة وتنفيذاً للقانون 200/2020. أثناء تواصله مع رئاستَي الجمهورية والحكومة، اعتبر وزني أن السؤال الذي طرحته «الفاريز» بشأن شمول حسابات المؤسسات الخاصة لدى مصرف لبنان «هو مسألة تتعلق بجوهر القانون وتفسيره». ولذلك، طلب، أول من أمس، رأي هيئة التشريع والاستشارات بالمسألة. سؤال «ألفاريز» بالرغم من أنه قد يكون محقاً بالنسبة لشركة عانى فريقها في التعامل مع مصرف لبنان، إلا أنه يفتح باباً إضافياً للحجج التي يمكن أن يسوقها رياض سلامة لعرقلة التدقيق. لكن مصدراً قانونياً يؤكد أن الإجابة يُفترض أن تكون بديهية، فلا قيمة للتدقيق في حسابات المصرف حصراً. حساباته ينشرها دورياً ولا تشملها السرية أصلاً. وبالتالي فإن من البديهي أن يستهدف التدقيق الحسابات المفتوحة لديه، إن كانت تخص المؤسسات الرسمية أو المصارف الخاصة. وهي حسابات كان يتحجج بالسرية المصرفية لرفض تسليم معلومات عنها للشركة، على اعتبار أنها تخص الغير. ولمعالجة هذه المسألة طلب سلامة، حينها، تزويده بكتب تُرفع بموجبها السرية المصرفية عن حسابات الدولة والهيئات والمؤسسات العامة. وهو ما حصل فعلاً بعد قرار مجلس النواب الصادر في 27/11/2020. لكن مع افتراض أن ذلك الموقف كان مبرراً، فإن تعليق قانون السرية المصرفية في ما يخص كل الحسابات لدى مصرف لبنان يعني أنه حتى طلب أصحاب هذه الحسابات رفع السرية عنها لم يعد ذا جدوى، طالما أن السرية رُفعت قانوناً. نائب شارك في صياغة القانون يجزم أن النقاش كان واضحاً في التأكيد أن «القانون يشير إلى التدقيق في حسابات مصرف لبنان وحسابات الغير المفتوحة لديه، بشكل يؤدي إلى إظهار كل العمليات التي جرت. وهو الهدف من التدقيق أساساً». يضيف النائب: وإلا كيف يمكن، على سبيل المثال، معرفة من استفاد من الهندسات المالية وكم استفاد؟ كما يؤكد المصدر أن الإشارة في القانون إلى أن «تبقى أحكام قانون السرية المصرفية سارية في كل ما عدا ذلك»، يعني بوضوح أن حسابات الجهات غير المشمولة بالقانون تطبّق عليها أحكام السرية المصرفية، ومنها حسابات المصارف الخاصة (غير المفتوحة لدى مصرف لبنان) وكشوفاتها المالية وحسابات عملائها.
لكن مع ذلك، وبالرغم من «بداهة» النقاش في مقصد القانون، إلا أن مجرد طرح الإشكالية المتعلقة بتفسيره يذكّر بتجربة سابقة سبق أن خيضت في سياق التدقيق الجنائي. هيئة التشريع نفسها سبق أن أفتت أن التدقيق الجنائي في مصرف لبنان لا يعوزه تعديل قانون السرية المصرفية، والمصرف ملزم بالتالي بتطبيق قرار مجلس الوزراء. لكن لأن رأي الهيئة غير ملزم قانوناً، فقد تمسّك سلامة بموقفه المصرّ على أن قانون السرية لا يسمح بتسليم المعلومات. هذا يعني أنه في حال أكدت الهيئة على أن القانون ينص على التدقيق في حسابات الغير المفتوحة لدى مصرف لبنان، لكن سلامة كان له رأي آخر، فإن ذلك سيكون كفيلاً بعرقلة التدقيق، والعودة مجدداً إلى الدائرة المفرغة.
وزير المال يطلب رأي هيئة التشريع بشأن «الحسابات الخاصة»
حتى لو تم تخطي هذه المشكلة أو افتُرض حسن النية، فإن عوائق تقنية يُفترض معالجتها، لا سيما مسألة تبديل العقد ليشمل كل المؤسسات، والبحث في كيفية دفع تكاليفه الإضافية، وإن كان يحق للحكومة المستقيلة تعديل القرار السابق ليشمل كل المؤسسات وليس مصرف لبنان فقط. الموضوع برمّته طُرح في الاجتماع الذي عقده رئيس الجمهورية مع وزني منذ يومين، وفي المراسلات بين الوزارة وبين رئاسة الحكومة.
طرح وزني مسألة التعديلات المفترضة على العقد على أثر القانون الصادر عن مجلس النواب، والذي ذكر «التدقيق بالتوازي»، ما يحتّم توسيع مهام التدقيق ليشمل جميع الأطراف المذكورة في القانون، ويستدعي تعديل العقد الموقّع مع «ألفاريز» وبالتالي ترتيب تكاليف إضافية. لكن رئاسة الحكومة، ورداً على الاقتراحات، طلبت إيداعها نسخة معدّلة عن العقد مع تفاصيله كافة والإجراءات المفروضة، حتى يتم المضي قدماً بالأمر. إلى ذلك الحين، تؤكد مصادر نيابية أن مسألة التوازي لم يُقصد بها التزامن في التدقيق. فهو ليس سباقاً يُفترض أن ينطلق فيه كل اللاعبين في اللحظة نفسها، بل المقصود كان توسيع دائرة التدقيق بحيث لا تشمل مصرف لبنان وحده. تجزم المصادر أن العودة إلى محضر الجلسة النيابية يظهر بوضوح أن التوجه كان لبدء التدقيق من مصرف لبنان على أن يطال كل المؤسسات المشار إليها في القانون. والبدء من مصرف لبنان محوري لأكثر من سبب. فبعيداً عن الشبهات التي تحوم حول عملياته التي أدت إلى فجوة تزيد عن 55 مليار دولار في حساباته، فإن التدقيق في هذه الحسابات كان انطلق أصلاً. وقد أقره مجلس الوزراء في 21/7/2020، كما وافق على التعاقد مع شركة Alvarez & Marsal لهذه الغاية (يشير القانون إلى عمليات التدقيق التي «قررتها وتقررها» الحكومة…). وبالتالي، يفترض، بعدما أزيلت العوائق من أمام هذا التدقيق، استكماله، إذا تبين أن السير في التدقيق في كل المؤسسات بالتزامن مع التدقيق في مصرف لبنان يحتاج إلى قرار حكومي جديد.