ذوالفقار قبيسي – اللواء
قبل أن تشهد مصارف العالم الأنظمة والقواعد والمعايير المصرفية الحديثة التي وضعت لحماية أموال المودعين والتي يطلق عليها اسم بازل ١ و٢ و٣، كانت الدروس التي تعطى لطلبة العلوم المصرفية خلال ستينيات القرن الماضي ان طريقة عمل المصرف على الوجه السهل والمبسّط والخالي من التعقيد، على الوجه التالي:
أولا – ٢٥% من الودائع تبقى احتياطا نقديا أو جزء منه موجودات يمكن عند الضرورة تسييلها على الفور وتسمّى Near- Cash. إضافة الى الـCash النقدي.
ثانيا – ٢٥% من قيمة الودائع بشكل سندات وأسهم من الدرجة الاولى AAA تسمّى في الدرس المصرفي Liquid Guilt- Edged Securities يمكن بيعها وتسييلها على الفور، ولو بخسارة ضئيلة عند الضرورة.
ثالثا – تسليف الـ٥٠% الباقية من قيمة الودائع لزبائن مؤهلين وذوي ثقة وحسن إدارة وبضمانات Collateral قوية غير معرّضة لانخفاض القيمة الى أقل من قيمة القرض، ولمدد استحقاقات قصيرة أو متوسطة، وعلى أن يكون الحساب متحركا باستمرار أو ما يسمّى Cash Flow بدفعات نقدية كافية نسبيا في ضوء طبيعة الضمانات المادية والمعنوية التي أعطي القرض مقابلها من حيث النوع أو من حيث القيمة.
رابعا – ضرورة القيام باختبارات لمعدلات السيولة والملاءة للتطورات الافتراضية من نوع سيناريوهات الـStress Tests للتأكد من مدى قدرة المصرف على مواجهة الحالات الطارئة مثل «الهجمة» أو ما يسمّى Run On The Banks كما حصل خلال الحراك الشعبي في تشرين ٢٠١٩.
خامسا – بالمقارنة مع طريقة التسليف والتعامل بالودائع في مصارف لبنان أثبتت النتائج والتطورات ان عددا كبيرا من هذه المصارف لم يعمل تماما بموجب هذا الدرس الواضح والبسيط:
١- الاحتياطيات النقدية وشبه النقدية كانت أقل من المطلوب.
٢- سندات الضمانات التي يمكن تسييلها بسهولة كانت صادرة عن دولة تؤجل الدفع من استحقاق فوري الى استحقاق آجل حتى انتهى الأمر بالامتناع عن الدفع وانعدام القدرة على التأجيل.
٣- بين الزبائن المؤهلين للاقتراض كانت دولة النهب والهدر والفوضى الزبون الأكبر الذي استحوذ على الجزء الأكبر من القروض وبالتالي من الودائع مما تسبب بالمحنة المصرفية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة.
٤- يضاف المشكلة الأساسية والأشدّ ضراوة وهي أنه فضلا عن القواعد والمعايير المصرفية الأساسية المشار إليها مفروض أن يضاف شروطا أكثر في حال مصارف لبنان الذي ليس سويسرا حقيقة كما يشاع ولا هو الدانمرك أو هولندا أو سواها من الدول المتقدمة والقوية ماديا وصناعيا وزراعيا، ولا هو مستقرا كفاية لا من حيث الأمن ولا من حيث السياسة ولا من حيث الثروات الطبيعية التي تشكّل لوحدها في بعض البلدان ضمانات كافية للايداعات والاستثمارات. فالمنعطفات والأحداث والحروب الداخلية في لبنان من ١٨٤٠ و١٨٦٠ أو ١٩٥٨ و١٩٧٥ الى الحروب الخارجية ٢٠٠٦ وصولا الى الأزمات السياسية والأمنية المزمنة والمستمرة حتى الآن، دليل صارخ يفرض المزيد من الحرص والحماية والضمانة بالمقارنة مع أحوال بلدان متقدمة ومستقرة. فهناك فارق كبير بين طريقة ومتطلبات مصارف تعمل بجوار جنائن وواحات، ومصارف تعمل بجانب براكين وصراعات، وبما يشكّل بعد الدرس الأول المتعلق بالتشدد في الاحتياطيات والضمانات – درسا ثانيا للبنان من خلال «المدرسة الاقتصادية التاريخية» الواقعية التي ترى أن أي نموذجا نظريا اقتصاديا لأي بلد يجب أن يأخذ بعين الاعتبار هوية البلد وطبيعته وبيئته ونظامه وقوانينه وعاداته وأعرافه وموارده وثرواته الطبيعية وجغرافيته السياسية.
ولعله بسبب القفز فوق كل هذه الحقائق والوقائع والمعطيات سواء في الأمس البعيد أو القريب أو في الحاضر الراهن في ظل اختصاصات حكومات أكثر أكاديمية ونظرية وأقل خبرات عملية وواقعية، لن يكون من السهل إعادة هيكلة منظومة مصرفية أو استخراج خطة ملائمة لاصلاحات اقتصادية أو سياسية. وعملا بالقول الشهير لـ «غوته»: «النظرية رمادية وشجرة الحياة خضراء».