لم يشذّ مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2021 عن سياق موازنات الاعوام الماضية. المحاولات التجميلية التي اعتُمدت في “الاخراج” على انها موازنة ثورية تواكب متطلبات المرحلة، لم تنجح في إخفاء بشاعة النص وتقليديته، واستمرار سيطرة التفكير المحاسبي الضيق على الفكر الانمائي الواسع. فأخفيت بين بنودها ضرائب واقتطاعات كثيرة تناقض تصويرها على انها موازنة اجتماعية.
“ضريبة التضامن الوطني” الاستثنائية التي تضمّنتها المادة 37 من المشروع لمرة واحدة على كل حساب دائن مفتوح في المصارف، تشكل نموذجاً عن التمويه المعتمد في الموازنة. ففي الشكل ظهرت هذه الضريبة على انها تصاعدية ومباشرة تُفرض على رؤوس الاموال الكبيرة. وبالتالي فهي أحسن انواع الضرائب واكثرها عدالة، تقتطع من الأغنياء وتعطي الفقراء خدمات إنمائية وتعليمية وصحية. وللغاية جرى تقسيمها على شطور، بحيث يقتطع من الودائع المصرفية التي تتراوح بين مليون و 20 مليون دولار نسبة 1 في المئة. ونسبة 1.5 في المئة على الودائع التي تتراوح بين 20 و50 مليون دولار.
و2 في المئة على كل الودائع التي تزيد عن 50 مليوناً. كذلك الامر بالنسبة إلى ودائع الليرة حيث يقتطع 1 في المئة على الحسابات التي تتراوح بين 1.5 و 30 مليار ليرة، و1.5 في المئة للمبالغ التي تتراوح بين 30 و75 مليار ليرة، و2 في المئة على المبالغ التي تفوق 75 ملياراً.
ويتوجب على المصارف اقتطاع الضريبة وتأديتها إلى الخزينة ضمن مهلة أقصاها شهران من تاريخ نشر هذا القانون بذات عملة الحساب، وهذا ما قد يكون عملياً شبه مستحيل وتحديداً في ما يتعلق بحساب الدولار.
العجز عن تأمين الدولار
فالمصارف الغارقة في زيادة رساميلها بقيمة 4 مليارات دولار، والتي تبحث عن الدولار بـ”السراج والفتيلة” لتلبية قرار مصرف لبنان بوضع 3 في المئة من مجموع ودائعها بالدولار نقداً في المصارف المراسلة، سيتوجب عليها تأمين 700 مليون دولار. وكونها “لولرت” حسابات زبائنها فان عبء تجميع المبلغ سيقع عليها قبل الزبائن. فبحسب جدول قيمة الودائع في المصارف اللبنانية في العام 2020 فان قيمة الودائع التي تتراوح بين 1 مليون دولار وأكثر من 100 مليون تبلغ حوالى 58 مليار دولار وهي تتوزع كالتالي:
45 مليار دولار قيمة الودائع بين 1 و20 مليون دولار، سيتوجب اقتطاع مبلغ منها وقدره 450 مليون دولار.
5.9 مليارات دولار قيمة الودائع بين 20 و50 مليوناً، سيتوجب اقتطاع مبلغ منها وقدره 88.5 مليوناً.
6.8 مليارات دولار قيمة الودائع التي تفوق 50 مليوناً، سيتوجب اقتطاع مبلغ منها وقدره 137 مليون دولار.
لجهة المودعين فسيخسرون فوق “الهيركات” المقنع الذي يبلغ 68 في المئة، مبلغاً إضافياً من ودائعهم، يعلمون انه لن ينفق في المكان الصحيح. كثيرون منهم قد لا يعارضون، جرياً على المثل القائل: “الغريق لا يخشى البلل”. إنما السؤال هل ستستطيع المصارف تلبية هذا الشرط؟ ومن أين “ستخلق” الدولارات الطازجة؟ وهل أساساً هذه الضريبة دستورية؟
الدولة لن تستفيد بشيء
“الضرائب تفرض على الدخل وعلى إنتقال الملكية، وحتى على فوائد الودائع، إنما لا تطال الودائع المصرفية بحد ذاتها”، يقول رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية د. منير راشد. “فهذه الضريبة مخالفة أولاً للعقد الموقع بين المودع والبنك. فمن يضمن ألا ترتفع هذه النسبة على سبيل المثال من 1 أو 2 في المئة اليوم إلى 10 في المئة في المستقبل. خصوصاً إذا شرعناها بسابقة. وهذا ما يؤدي إلى وقف تدفق الودائع إلى المصارف اللبنانية ولو بعد 20 عاماً”. أما من الجهة الثانية فان “هذا الاقتطاع لا يسمى ضريبة إنما “هيركات” سيضاف إلى خسائر المودعين المتراكمة، بعدما أصبح كل دولار من ودائعهم يساوي 32 سنتاً. وبما ان الدستور اللبناني لا يسمح في المادة 15 منه بـ”الهيركات”، يصبح هذا الاقتطاع المسمى “ضريبة” غير دستوري ولا يحق للدولة بفرضه”، يضيف راشد. أمّا من الناحية المحاسبية، فان “اقتطاع المبلغ من الخصوم يحتم على المصارف اقتطاع مبلغ مواز له من الاصول الموجودة لدى مصرف لبنان والقروض”، بحسب راشد، “وذلك لكي تحافظ المصارف على الميزانية بين الاصول والخصوم، وبالتالي لن تستفيد الدولة بشيء”. واللافت، بحسب راشد، انهم عادوا وضمنوا الموازنة هذا البند على الرغم من شرح هذه المعاملة المحاسبية لمن يهمه الامر وبانه لن ينتج عنها ايرادات للدولة، بسبب حتمية الابقاء على التوازن بين الاصول والخصوم”.
تعويض تراجع الضريبة على الفوائد
بعيداً من الارقام والحسابات فان “الهدف من الضريبة على الرساميل هو تعويض فرق إنخفاض مردود الضريبة على الفوائد”، يقول رئيس تجمع رجال الأعمال فؤاد رحمة، “حيث غاب عن الموازنة معالجة الملفات الحساسة كالكهرباء ومصير الديون ومصير التفاوض مع الدائنين وصندوق النقد الدولي، ومعالجة الهدر والفساد وحضرت الضريبة على الرساميل”، فأتت موازنة أرقام قائمة على ضرب اخماس الحسابات بأسداسها. وهذه “كذبة كبيرة”، بحسب رحمة، “فالمبالغ ستنفق على قطاع عام مترهل وموظفين لا يداومون وعلى استمرار التهريب والفساد”. وبرأيه فانه “من المستحيل إقرار موازنة وتطبيقها في الوقت الذي أصبح فيه الاقتصاد الرديف يشكل أكثر من 50 في المئة من الاقتصاد. ففي ظل هذا المستوى من التهرب الضريبي والتهريب الجمركي والحدود “الفلتانة” لا يعود للموازنة أي دور أو فعالية”.