محمد بو مجاهد النهار
كلّ صور الفوضى والنيران التي بدأت تتغلغل في الشارع اللبناني، كانت مستقرَأة وواضحة في مقاربة خبراء مصرفيين، في مرحلة سبقت الغضب الشعبي الذي وصل الى ذروته وأنتج انتفاضة 17 تشرين الأوّل 2019. وإذا كان لا بدّ من العودة الى مطلع تشرين الأول 2019، عندما بدأ سعر الصرف يرتفع بمعدلات طفيفة، رغم كلّ تطمينات الحكّام والسياسيين المعاكسة والتي كانت تشير الى أنّ الوضع طبيعيّ، فإنّ المشهد الحقيقي لتلك المرحلة كان واضح المعالم في رؤية مصرفيين مخضرمين سردوا في مجالسهم صورة الأيام المقبلة التي ستشهد انهياراً متدحرجاً وفوضى وبداية تكسير واجهات مصارف وإحراقها، علماً أن ذلك ليس بعمل خطير، في رأيهم، لأنّ تكسير فرع مصرفيّ أسهل ويرتّب خسائر شكليّة وماديّة أقلّ من فعل تكسير “سوبر ماركت” ومقتنياتها، مثلاً.
الغاية من العودة الى تلك المرحلة التأكيد انّ الانهيار في لبنان كان بدأ قبل اندلاع انتفاضة 17 تشرين، وأنّ الاستهزاء بالسبب الظاهري الذي نزل من أجله الناس الى الشوارع في ذلك التاريخ (ضريبة الـ 6 دولارات على تطبيق “الواتساب”) والذي يستخدمه سياسيون من مختلف المشارب والانتماءات في تصريحاتهم، ليس سوى محاولة لتسخيف السبب الحقيقي الذي دفع الناس الى الانتفاض حينذاك، والذي يتمثّل في أنّهم شعروا بأنّ فعل السقوط من على حافة الانهيار الاقتصادي قد حصل في غياب تنفيذ أي إصلاح واستمرار واقع المحاصصة بين الأحزاب السياسية، بعدما بدأ سعر الصرف يصعد عن مرتبة الـ1515 وباتت بعض المؤسسات تطلب مستحقاتها بالعملة الصعبة حصراً التي راحت تُفتقد من السوق، فيما بدأت شركات التحويل المالية في لبنان تعطي التحويلات الى أصحابها من ذويهم في الاغتراب بالعملة اللبنانية. هذا كلّه حصل قبل بضعة أسابيع من 17 تشرين.
عندما بدأ سعر الصرف يقارب عتبة الـ1650 ليرة، نظر اللبنانيون الى الوضع باستغراب. وما لبثت القفزة التدريجيّة الى 3 آلاف ليرة بعد مضي أشهر، أن شكّلت نوعاً من الإحباط في النفوس رغم أمل المواطن بأن ينخفض مجدّداً. اليوم تخطّى سعر الصرف الـ9 آلاف بعدما بلغ مستوى غير مسبوق. اللبنانيون تأقلموا بحسب تقويم مراجع ماليّة صاحبة موقع مسؤول لـ”النهار”، بعدما زاد سعر الصرف أكثر من 5 أضعاف، لكنّهم سيضطرون الى التعامل مع واقع جديد في المرحلة المقبلة في ظلّ قراءة واحدة تشير الى اتجاه تصاعديّ لسعر الصرف في الأشهر الآتية في ظلّ غياب تنفيذ الإصلاحات.
شرحُ الواقع الراهن من منظار المراجع أشبه بالمشهد المتقطّع (صعد سعر الصرف بشكل تدريجي حتى 8 آلاف، والآن سنشهد مرحلة صعودٍ متقطّع جديد)، خصوصاً أنّ التوتّر الأمني الذي تشهده بعض المناطق يزيد المخاوف ويؤثّر بطريقة سلبية على الاقتصاد في ظلّ فقدان عامل الثقة المرتبط بالأوضاع السياسية والأمنية، وفي غياب تشكيل حكومة واتخاذ اجراءات اصلاحية جراحية تساهم في إدخال عملة صعبة الى البلاد. أما مستوى الارتفاع فإنّ ما يصلح هنا هو عبارة sky is the limit، ولا أحد يستطيع توقّع الأرقام. ولكن يتأكّد أن الارتفاع سيكون بشكل تدريجيّ لأن الاجراءات المعتمدة من المصرف المركزي لا تزال تساهم في ضبط أي ارتفاع سريع وكبير في ظلّ تجميد السحوبات بالليرة اللبنانية، ما يعني طلباً محدوداً على الدولار في السوق وإلا لكان وصل سعر الصرف الى 20 ألف ليرة.
وفي وقت تشير المعطيات الى أنّ الدعم يمكن أن يستمرّ حتى شهر حزيران المقبل مع عدم توافر مؤشرات واضحة حول امكان تمديده من عدمه، إلا أن مرحلة توقّف الدعم ستشهد علميّاً قفزة تلقائية في سعر الصرف في ظلّ اتجاه التجار، وبالأخصّ الوقود، الى السوق السوداء. وتشبّه المراجع الواقع بمشهد فنزويلا، علماً أنّ لبنان لا يزال في الأشواط الأولى من المسار الفنزويلي في موضوع التضخّم، والاتجاه هو نحو درك أسوأ في حال استمرار غياب الإصلاح.
يأتي ذلك فيما يستمرّ صندوق النقد الدولي في دقّ ناقوس الإنذار وحضّ لبنان على ضرورة تنفيذ الاصلاحات من دون أن تلقى نداءاته استجابة من الطبقة السياسية اللبنانية التي لا تزال غارقة في صراعاتها الداخلية. وعلمت “النهار” أن اجتماعاً مرتقباً سيجمع ممثلين عن “الصندوق” مع اقتصادي لبناني في موقع مسؤول، بعد تواصل حصل حديثاً من دون تحديد موعد الاجتماع الافتراضي حتى الساعة.
في غضون ذلك، برز تطور سياسي سلبي في الساعات الأخيرة على صعيد الردود والبيانات المتقابلة بين الرئاستين الأولى والثالثة في اشارة واضحة توقّفت عندها مصادر متابعة عبر “النهار”، في تصويرها أفقاً مسدوداً ينسحب على الوضع الاقتصادي، إضافة الى مشاهد التوتر الأمني مع “صفر” استثمارات في وقت تحاول الشركات الصمود، فيما إيرادات الدولة تتضاءل والعجز يغطّى من طريق طبع العملة. ويمنع التأزم السياسي القائم في لبنان المباشرة في القرارات الاصلاحية في غياب ولادة حكومة، ما يؤدي الى تداعيات أكبر على الليرة في مشهد تضاف اليه المضاربة على أسعار الصرف الثلاثة وسط ظاهرة جشع التجار. وتخلص المصادر إلى سيناريوات ثلاثة للمشهد السياسي المرتقب: الاحتمال الأول، هو الأكثر ترجيحاً لناحية إمكان استمرار المراوحة الحكومية حتى نهاية ولاية رئيس الجمهورية في غياب أي انقشاع مع تعزّز القناعة في المجالس السياسية بأنّ ولادة الحكومة مرتبطة بقرار ايراني، فيما الخسائر الى استمرار وتآكل مستمرّ وفوضى متزايدة قد تنعكس على كثير من المناطق اللبنانية. والاحتمال الثاني أقلّ ترجيحاً لناحية إمكان بروز مستجدّات في الملف الحكومي خلال الشهرين المقبلين. أما الاحتمال الثالث فشبه مستبعد لجهة إمكان التوصل الى اتفاق سريع بين القوى السياسية على تشكيل حكومة والشروع في اجراء الاصلاحات، وهو احتمال بمثابة حلم.