الكاتب : نصري الصايغ
“هل يمكن لحمار أن يكون مأساوياً؟”
طبعاً. اللبناني مأساوي. مأساته متمادية. الكتابة عنه هي قفز دائم من إلى … ثم من إلى مراراً. دائماً. هناك شيء نخفيه. حقيقة لا نتجرأ على معاقرتها. كأن هناك خوفاً بليغاً من مواجهة الذات العارفة، والكاذبة كذلك. يفضل اللبناني إثارة الفوضى واللغو والارتباك والاختباء و… تحميل “شريكه” اخطاء الكيان ونكبات السياسة. كتمان سر الولادة وما ترتب عليه، شأن مبرم. هناك، في السياسة. أخطاء لا تغتفر، ولكن اللبنان يعاقر هذه الاخطاء ولا يعترف بها. الكذب فضيلة لحماية الاقامة في الخطأ.
لبنان هذا، خطأ تاريخي. ما نحن عليه اليوم، كان معلوماً منذ ولادة “لبنان الكبير”. سيرته الذاتية من قبل، معيبة وهمجية ودموية. سيرته بعد استيلاده على يد القابلة الفرنسية، منسية عمداً. وهذا التناسي المتبادل بين المكونات الطائفية السافلة، هو ذروة الذكاء السياسي. لقد حاولوا بناء دولة وتكريس نظام واستيلاء مجتمع، مصاب بعلة التدمير الذاتي. عبث! الغريب جداً، هو أن لبنان ليس واحداً. وهو معروف وصحيح ودقيق. فرنسا، الأم الخؤون. أنشأت لكل سبط طائفي، كيانا رجراجاً. على ايقاع النزاعات الطائفية الموروثة، والمستمرة والناشطة. وهذه الطوائفيات، بنات التاريخ. انها ليست وافدة من الخارج. انها العدة السياسية، لأمراء ومشايخ ورجال دين ونافذين وعملاء ووكلاء وأصحاب ذمم مخروقة وشهوات لا تشبعها الاموال الفائضة، المسلوبة من افواه الشعوب اللبنانية. غريب أن الطوائف اللبنانية مختلفة، ولكنها تشبه بعضها، حذو النعل بالنعل. المارونية تشبه السنية ويشبهان الشيعية والدرزية. الخ. انهم “الأخوة الاعداء”. لا يحاولن أحد أن يتباهى بصفته السياسية. كل طائفة تنام في حضن وعلى ثدي ترضع منه دعماً وتريد منه ولاءً.
لبنان هذا، خطأ لا يغتفر. فرنسا انجزت هذا الخطأ. وهذا الخطأ له نسل يشبهه. ما بلغه لبنان راهنا، كأنه من قبل. ولد من اجل الطوائف، ويستحيل أن يكون دولة. تاريخ لبنان، جله، احداث ضد مفهوم ومضمون بناء الدولة.
عرفنا انقسامات متنقلة. تحالفات غير منطقية. وكل حلف بين طائفتين أو أكثر، يواجه بحلف مضاد. ثم، وهذا هو ميزان العبقرية، أن جماهير التحالفات المتناقضة، يظل على انسجام مع قياداتها التي تسوقه من موقع مريح، الى موقع مضاد، يتوجب عليه الالتزام به ولو كان غير مريح ابداً.
لنقرأ بسرعة صيغة التحالفات النفعية، بين جماعات متناقضة جداً. ولا يستوي ابداً أن يقف موالياً هنا ثم معارضاً هناك. عفوا. الدهماء هي الصفة الملازمة لجماهير الطوائف. أن استعمال هذا اللفظ، او هذا المصطلح، ينطبق على جماهير ونخب و”مثقفي” ومرجعيات الطوائف الروحية والزمنية. الدهماء، اسوأ انواع الديموقراطيات. اليوم تكون هنا، غداً تكون هنالك، بعده تكون حيث يكون قائد الدهماء. لا أحد يسأل، لا أحد يحاسب… في مثل هذه الحالة، يفضل الكائن المواطن أن يظل وحيداً، على أن يكون شبيها بمخلوقات بشرية مزيفة وجديرة بأن تداس بالأحذية.
الذاكرة اللبنانية خائنة. اللبنانيون يظنون أن ما يعيشونه اليوم، هو بدعة كارثية جديدة. لا جديد في لبنان. حتى أسماء العائلات، باستثناء قلة، كانت من قبل، ومستمرة بعد ذلك، دائمة في ما بعد. استعرضوهم ستجدونهم ابناء واوفياء لآباء في غاية السوء. الماضي في لبنان لا يموت. هؤلاء الذين يتحكمون بنا اليوم، هم من نسل ذلك الماضي. انه وبرغم الاثقال التي ننوء بها، نعرف أن ما يحصل الآن، ليس أقسى من حرب الخمسة عشر عاماً، وان هذا الانقسام الراهن ليس جديداً. انما… ما بلغته الأزمة من عمق ومأساوية، تثير مسألة اساسية، إلا يملك اللبنانيون. او الدهماء بدفة التعبير، أن هذه العصابات الطائفية، قد سرقته ونهبته وافقرته وأعدمته وجوعته ونفته والغته ولم تبق منه الا أن يكون مطيَة لتركبه وتخوض به معركة ترميم مواقعها، من اجل المزيد من النكبات… لن أميز بين أحد. الكل مسؤول في ممارسة الارتكاب اللا وطني. ولعلك يا أيها الدهماء، تعرف أكثر منا، افاعيل وارتكابات زعيمك، ومع ذلك، ما زلت تتمرن على احناء ظهرك كي يرتاح زعيمك الراكب ابداً على عنقك وعقلك وكرامتك. ثق أيها النذل. لا نذالة تضاهي موقفك.
قيل من زمان: لبنان وطن صعب. هذا خطأ. يدل على امكانية تذليل الصعب. ليصبح لدينا وطن يحتضن جميع ابنائه وينتمي اليه شعبه بصيغة مواطنين مسؤولين ومحاسبين وجميلين ايضاً. قيل ايضا: انه دولة مستحيلة. صح. عندما رسمت فرنسا، الجدة الاصيلة لإمانويل ماكرون، “دولة لبنان الكبير”، كان الهدف أن تبقي على التفاوت الطائفي والتنافس المذهبي مع رسنٍ برقبة كل طائفة، كي تُقاد من الخارج.
علينا أن نقترب من حالة العري التام، لنتفرج، بملء عيوننا، العورات التي ظلت، نوافذ العبور من إلى، ومن إلى الينا. لكل طائفة ثدي ترضع منه. يجوز التغيير والاستبدال. ممنوع الاستقلال عن الخارج. وقيل أن لبنان دولة مستقلة. بلا مزاج. لم يحدث في أي حقبة او في أي عهد، أن كان لبنان لبنانيا. استضاف كل الدول القوية والنافذة، وكانت صاحب الامرة. هل نسمي الاشياء بأسمائها؟ فلنتذكر: فرنسا الام الحنون. بريطانيا التي انتزعت استقلال لبنان من فرنسا وغصبا عنها. حصة فرنسا كانت محفوظة تنافسها بريطانيا، وينافسهما من صوبنا، جمال عبد الناصر، الذي حاول انتزاع لبنان من الغرب، فجاءته اميركا بمشروع ايزنهاور ومن ثم رست البوارج الاميركية على الشواطئ. لم ننسى النفوذ الفلسطيني ومن معه، والاستعانة “بإسرائيل” كذلك، والدخول السوري الذي دفع ثمنه الجميع. ولا ننسى أن صراعاً لبنانيا غير صامت وارست رحاه بين البعثين: العراقي والسوري فوق ارض لبنان. ثم لم ننسى ما اجترحه اللبنانيون بعد الطائف، (صيغة غير لبنانية بالمرة): حضرت السعودية وايران وقطر والامارات و… هلم جرا.
بالفعل. يلزم عدم كتابة السيرة الذاتية بتفاصيلها. انه لنص مرهق جداً. أن تقرأ كلمات تلزمك أن تفضل العراء السياسي والوطني، على الالتحاق المزري الذي تمارسه الدهماء. الفراغ أفضل. أن تفرغ من لبنانيتك هذه المتداولة، يعني أنك خرجت من اجل معركة بناء لبنان الديموقراطي الوطني المدني العلماني، حيث الولاء، كل الولاء وكل الوفاء، ليكون الاداء لبنانيا، متصالحاً مع شعبه، ومتصالحاً مع محيطه، بندية صارمة واستقلالية حازمة.
لغتي هنا، ليست صوتي وحدي. لقد سبقني كثيرون إلى رسم معالم الصورة القبيحة للبنان. لغتي الآن، هي اصوات الآخرين. هي مشاهدهم المرتبة في عقولهم والمضيئة لانتمائهم اللبناني المؤلم والصادق. ليس للدهماء احساس او كرامة او نبل. أن اعلى رتبة تطمح اليها الدهماء، هي أن تكون بسوية النعال التي يمتطيها الزعماء الوارثون والمورثون.
قيل: الشر اساس. التاريخ شرور. البشرية مرتكبة خيانات. والشر لا متناه في السياسات المعطوبة. لقد كان الكثيرون منا اشراراً. بادعاء مفضوح، بأن لا أحد يعرف ذلك… كذب هذا. هراء هذا. اننا باعة صغار على قارعة السفالة.
لنختم الكلام هنا. لا جديد. المأساة مستدامة. الآتي مخيف. ولكن… ماكرون قادم الينا للمرة الثالثة. لم تتغير فرنسا ابداً. انها الأب الروحي للبنان والام الحاضنة لوليدها المشوَه. هذا ما جنته فرنسا علينا بعد معركة ميسلون. لقد قسَمت المقسَم وحرسته وأيدته.
عد إلى بلادك يا ماكرون. لست الدواء. أنتم الداء. من زمان. هو موروث وموصوف ومنقذ. مناثر الطائفية التي رسمتم حدودها. مسكين الميثاق الوطني. لم يعش الا قليلا. راجعوا مرحلة بشارة الخوري ورياض الصلح. تذكروا أن “ثورة” العام 1958، هي الابن الشرعي للاستفراد الطائفي. راجعوا دفاتركم العتيقة بصمت. لا شيء ينسى. لا شيء طي الكتمان ابداً.
هل تحبون لبنان؟
بربكم، قولوا لنا كيف تحبونه وسط هذه الكراهية وداخل هذه الاحقاد؟ لذا، لا بد من تصحيح مصطلح “الدولة العميقة”. كلا هذا وهم. هذه نتيجة. عندنا “المجتمع العميق”، باني هذا الركام السياسي المزمن. تأملوهم جيداً. “المجتمع العميق” هو اليوم في ذروة انشطاره ونشاطه المحموم.
تذكروهم، إسماً إسماً، مرجعية تلو مرجعية، زعيما خلف زعيم.
تذكروهم: حركة بعد حركة، حزباً تلو أحزاب، تياراً إثر تيار. انهم اعداء يتشابهون، سلوكاً ونفوذا وارتكاباً… جغرافية لبنان محكومة بهؤلاء. ذخيرتهم الحية قواعد طائفية مرصوصة ومجازفة إلى درجة اللجوء إلى العنف، إذا لاح في الافق مشروع دموي. ذخيرة الولاء تامة وحازمة. والزعماء موهوبون جداً في ابتداع الصيغ المناسبة.
إلى اين أنت قادم يا ماكرون؟ ألم تجرب الفشل؟. لا بد أنك تعرف وتصرح بأن هؤلاء القادة يمارسون عقيدة استبداد الفساد. الفساد معهم ليس طارئاً. الفساد دينهم السياسي، وهم مخلصون له ويعبدون آياته المالية..
إلى هؤلاء أنت قادم! هل تريدنا أن نصدقك ونصدقهم؟
الهيكل الذي بنيتموه في سايكس- بيكو، هو المذهب السياسي لهؤلاء، نظاماً ودولة ومجتمعات بصيغة تجمعات غريزية تُقاد برسن الطائفة والمذهب.
اننا مدركون جيداً في أن سيزيف قائد الانقياء، لأنهم مؤمنون بالخلاص المستحيل. يقول نيتشه في ” غسق الأوثان”: “المؤرخ ينظر القهقرى، ثم ينتهي بأن يؤمن القهقرى”…
كثيرون نحن الذين نؤمن بالقهقرى، لأنكم اخترعتم دويلة تعيش دائماً على حافة الهاوية التي لا قاع لها.
رجاء ماكرون. لا تأتِ. تعبنا من الأوهام الكاذبة. إننا في الخواء، وأنتم شركاء في هذا الخطأ التاريخي. علينا أن نطلق النار يوما ما على هذا الارتكاب الأخرق.
هذا لا يعني أن دولاً عربية “شقيقة”، أفضل حالاً منا. لدينا فائض من الظلم والاستلاب، وفقدان تام للحرية وانعدام للديموقراطية، انها دول عارية من كل قيمة انسانية، حقوقية، اخلاقية.
قيل، هناك من سيضحك في النهاية. أيها الجميع، نحن الذين بكينا وسنبكي في النهاية. لبنان لا شفاء له. ولا شفاء منه.