يريد وزير المال غازي وزني من الإدارات والمؤسسات العامة تزويد «المالية» بمعلومات عن موجودات الدولة العقارية وغير العقارية. هذا الطلب عبارة عن مادة في مشروع الموازنة، وإذا ما أُقِرّ من ضمنها فسيصبح قانوناً مُلزماً. المسألة تطرح تساؤلات حول نيّة وزني من وراء «حشر» إجراء مماثل في غير محلّه لقوننته بعد منع رئيس الحكومة حسان دياب الإدارات من التجاوب مع طلبه سابقاً لأنه يتطابق ومصلحة المصارف. صحيح أن من واجب الدولة أن تعرف ما لديها من أملاك، وأن ترى السبيل الأنسب لاستثماره للمصلحة العامة. لكن ما هو «غير طبيعي» أن يتمّ ذلك في سياق طرح بيع أملاك الدولة والناس، وخصوصاً أن الغاية منه ليست سوى مضاعفة ثروة أصحاب رأس المال من أصحاب المصارف وكبار المودعين… لكن هذه المرة على حساب المجتمع بأكمله وليس المودعين وحسب
عادت نغمة بيع أصول الدولة وخصخصتها مع نشر مشروع الموازنة عام 2021. ففي المادة 101 من هذا المشروع المُعَدّ من وزير المال في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني، يطلب الأخير من «جميع الإدارات والمؤسسات العامة والمشاريع المشتركة والشركات المختلطة إلخ… تزويد وزارة المالية بالمعلومات التي تملكها عن موجودات الدولة العقارية وغير العقارية ضمن مهلة ستة أشهر من تاريخ نفاذ هذا القانون، بالإضافة إلى وجهة استعمال هذه الممتلكات وشاغليها في حال وُجدوا وغير ذلك من المعلومات التي يجب أن تحدّد بمرسوم يصدر عن مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية».
وزني نفسه كان قد أعلن في نيسان الماضي قيام وزارته بمسح وكشف وتخمين شامل لأملاك الدولة، وذلك سيتمّ وفق تعاون ما بين مديرية الشؤون العقارية التابعة للمالية ونقابة الطوبوغرافيين. يومَها وُضع الخبر في إطار تطبيق القرار 1 الصادر عن مجلس الوزراء بتاريخ 21/10/2019 والذي نصّ في البند الخامس منه على تكليف وزارة المال إجراء جردة بالعقارات كافة التي تملكها الدولة وتقييمها وتقديم اقتراحات للاستفادة منها. هذا القرار الذي كان بنداً من بنود البيان الوزاري، أُعِد بحسب مصادر حكومية «لمضاعفة أرباح الدولة وعائداتها والاستفادة من أصولها عوضاً عن تركها بيد مجموعة من رجال الأعمال وحاشية السياسيين، الذين راكموا وما يزالون ثروات منها خصوصاً هؤلاء المعتدين على الأملاك البحرية». لكن ما إن باتت هذه الأصول، تحت مرمى عين المصارف وجزء من خطتها الخاصة للخروج من الأزمة، فرملت الحكومة هذه «الجردة» بانتظار القرار النهائي حول توزيع الخسائر ما بين مصرف لبنان والمصارف والدولة اللبنانية. إلا أن وزير المال، على ما تكشف مصادر مطلعة، «تمسّك بإجراء المسح تنفيذاً لضغوطات سياسية من رئيس مجلس النواب الذي ساند خطة المصارف وساهم (بواسطة ثلاثي ابراهيم كنعان – ياسين جابر – نقولا نحاس) في إسقاط خطة التعافي المالي التي أعدتها الحكومة». وتكشف المصادر عن أن رئيس الحكومة حسان دياب وفور تيقّنه من هذا الأمر «أغلق الأبواب أمام «جردة» وزني ومنع الإدارات العامة من التعاون معه حتى يمنع المصارف من تنفيذ مآربها والفوز على الحكومة». فيما تَوَقُّف المفاوضات مع صندوق النقد، أخمدَ البحث بهذه المسألة… إلى أن أتت الفرصة للقفز فوق الأبواب المغلقة عبر «تهريب» مسح أصول الدولة ضمن الموازنة لقوننته وفرضه كأمر واقع.
ثمة مجموعة من المخالفات المرتكبة في هذه المادة المطروحة ضمن مشروع الموازنة والمتعلقة بمسح أصول الدولة. يقول وزير مال سابق إن عقارات الدولة من مسؤولية مديرية الشؤون العقارية التابعة لوزارة المال، لا علاقة لها بالموازنة بل يمكن إجراؤه بمعزل عنها. وبالتالي مجرد «حشرها» في المشروع يطرح تساؤلات حول النية من وراء هذا الأمر. من جهة أخرى، الغرض من هذا القرار رغم مخالفته للدستور، إن كان وضع عقارات وأملاك الدولة ضمن صندوق سيادي، يُفترض توزيع عائداته على الشعب، المالك البديهي لهذه الأصول وليس أصحاب المصارف أو من يدور في فلكهم. فإذا كانت المصارف على علم بأن الدولة مفلسة ورغم ذلك عمدت إلى إقراضها ثم استقدمت أموالاً من الخارج لتوظيفها وجني الأرباح؛ والمصرف المركزي الذي لا حقّ له بالإقراض إلا ضمن حدود معينة قد خالف القانون أيضاً، ذلك يجعل المقامرين بأموال المودعين ثلاثة: السلطة السياسية والسلطة النقدية والمصارف. أما الخاسر الوحيد فهو صاحب الوديعة الذي تم السطو على أمواله، وبالتالي هل تريد المصارف اليوم سرقة أملاك الشعب العمومية بعد أن سرقت أموال المودعين؟ الأبدى هنا أن يعمد أصحاب المصارف إلى بيع أصول مصارفهم وممتلكاتهم وعقاراتهم وتحمّل مسؤولياتهم تجاه المودعين، لا تحميل شعب بأكمله وزر معاصي مافيا المصارف.
بعد قصّ الشعر الذي تعرّض له المودعون وما زالوا، تطمح مافيا المصارف إلى قصّ أملاك الدولة
يشير أحد المشاركين في وضع خطة التعافي المالي إلى أن اقتراح المصارف بمؤازرة من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لبيع واستثمار أصول الدولة من خلال صندوق سيادي، قضى بوضع هذه الأصول بيد أصحاب المصارف. فبعد قصّ الشعر الذي تعرّض له المودعون وما زالوا، يطمح هؤلاء إلى قصّ أملاك الدولة. هكذا يتسنّى لمن أهدر دولارات المودعين لمضاعفة دولاراته، إدارة أموال مجتمع بأكمله مع إعطائه ترف استخدام موجوداته كما يشاء، وحتى يقرر بنفسه إن كان ثمة إمكانية لتعويض جزء صغير من خسائر المودعين. عُرض هذا الأمر بشكل واضح ومن دون خجل في مجلس النواب وخلال الاجتماعات. وقد لقي دعماً وتسويقاً سياسياً في المجلس وخارجه بعد تكشير حزب المصارف عن أنيابه. فمن يُفترض أن يحموا أملاك الدولة وصندوق سيادتها، قرروا بيع هذه السيادة لإنقاذ أنفسهم وشركائهم. وقد نجح هؤلاء بتغليب كفّة المصارف وسط اتخاذ الحديث عن خصخصة وبيع أصول الدولة منحى جديّاً لحماية أصحاب رأس المال وإعفائهم من إعادة أرباح الهندسات المالية وإعادة رسملة مصارفهم.
البديهيّ أن يعمد أصحاب المصارف إلى بيع أصول مصارفهم واستثماراتهم قبل الحديث عن أملاك الشعب
النقطة الثانية في هذا السياق، تتعلق بنظرة المصارف وبعض السياسيين إلى المال العام. فقد جرت العادة أن ترقّع الدولة وتغطّي على فساد السياسيين والمسؤولين والسياسات المالية والنقدية الفاشلة، وتترك للشعب أن يتحمل نتيجة ما أوصله إليه سياسيّوه باعتبارهم ممثلي الشعب. حماية أصحاب المصارف وحاملي الأسهم هنا بديهيّة لأن غالبية هؤلاء هم السياسيون أنفسهم أو ممولوهم أو المرتبطون بهم بمصالح خاصة. رغم أن ثمة من يقول إن كل أصول الدولة لن تطفئ خسائر مصرف لبنان والمصارف، بل جلّ ما تفعله هو مراكمة الخسارات فوق الخسارات. رغم ذلك، ارتأى وزير المال في ظلّ إفلاس الدولة وانهيارها أن يقوم بمسح موجوداتها لغاية في نفسه بعد معارضة رئيس الحكومة ووقوفه في وجه إتمام هذه «الجريمة». علماً أن بعض المقربين من وزني يؤكدون أنه عارض وضع «الصندوق السيادي» بيد المصارف، إلّا أنّ إصراره على المضي قدماً بهذا الإحصاء في هذا الوقت وبطريقة مخالفة للقانون، لا يمكن إلا إثارة الشبهات حول الغاية منه.