بعدما دأبت الاستخبارات الإسرائيلية، خلال الفترة التي سبقت توقيع الاتفاق النووي عام 2015، على التحذير من أن إيران على بعد خطوة من إنتاج أسلحة نووية، باتت اليوم، في ظلّ احتمال عودة جو بايدن إلى الاتفاق، تُطمئن إلى أن لا مخاطر نووية في المدى المنظور. «تقديرٌ» تستهدف من ورائه تدعيم تحريضها على إبقاء العقوبات ضدّ طهران، لما سيجلبه رفعها من تهديدات ليس أقلّها تعزيز الحلفاء في العراق وسوريا واليمن ولبنان، مادّياً وعسكرياً
لعلّ أبرز ما يُميّز تقدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية للعام 2021، أن هذه المؤسّسة استعادت الصفة التي التصقت بها قبل عقود، وهي تَحوُّلها إلى «مقاول» للقيادة السياسية، بعدما غلب عليها الحرص على مواءمة تقديراتها مع توجّهات تلك القيادة وخياراتها. استردّت الاستخبارات لاحقاً صفتها المهنية، على إثر خروجها من صدمة فشل تقديرها المتّصل بتوقُّع حرب تشرين في عام 1973، لكن يبدو الآن أن سمة «المقاول» ستعود لتلازمها، لكن في سياقات مختلفة. يتجلّى ذلك في مساوقة تقديرها توجّهات رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، إزاء كيفية مقاربة التهديد الذي يُمثّله البرنامج النووي الإيراني. وهو تحوّل برزت أول معالمه في حديث رئيس أركان الجيش، أفيف كوخافي، مطلع السنة الجارية، فيما يبدو أنه يعود إلى أمرين أساسيين: الأول، محاولة تصدير موقف موحّد أمام الولايات المتحدة وفي مواجهة الجمهورية الإسلامية في ضوء تعاظم قدرات محور المقاومة والقفزات التي حَقّقتها إيران نووياً، والثاني مرتبط بسياقات داخلية تهدف إلى تهيئة الرأي العام لتقبُّل رصد المزيد من الموازنات لمصلحة المؤسّستَين العسكرية والاستخبارية، في ظلّ ما تواجهه إسرائيل من أزمات اقتصادية لم تشهد مثيلاً لها منذ عقود.
تحوُّل إضافي يبرز في تقدير الاستخبارات، بالمقارنة مع ما كانت تُقدِّمه من تقديرات قبل الاتفاق النووي عام 2015، حيث كانت تُحذّر من إمكانية إنتاج إيران أسلحة نووية ضمن فترة زمنية غير طويلة. وكان الهدف من ذلك تحريض الدول العظمى على اتخاذ خطوات عملانية بوجه طهران. لكن الخيبة التي تلقّتها تل أبيب كانت من الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، الذي لجأ إلى الاتفاق مع إيران لكبح تقدّمها النووي. أمّا الآن، ونتيجة المخاوف من عودة إدارة جو بايدن إلى الاتفاق كوسيلة لمنع الجمهورية الإسلامية من إنتاج أسلحة نووية، فإن إسرائيل تُسوّق لضرورة استمرار العقوبات الاقتصادية، وتحاول أن تُطمئن إلى أن المسافة التي تفصل إيران عن إنتاج تلك الأسلحة لا تقلّ عن سنتين، في محاولة للقول إن استمرار العقوبات قد يؤدّي إلى إضعاف طهران، ولا ينطوي على مخاطر نووية.
ولإيضاح الفروقات بين التقدير الاستخباري الإسرائيلي وبين ما صدر من تقديرات في الولايات المتحدة تحدّثت عن مدى زمني قد يصل إلى عدّة أسابيع، فإن إيران تحتاج إلى 40 كلغ من اليورانيوم المخصَّب لإنتاج قنبلة نووية واحدة، وهو ما يمكن أن تُحقِّقه خلال أربعة أشهر فقط، بحسب التقدير الإسرائيلي. لكن تركيب رأس نووي على صاروخ ملائم لذلك، يحتاج ــــ من لحظة اتخاذ القرار ــــ إلى 21 شهراً. لكن ما تنبغي الإشارة إليه هو أن كلّاً من تل أبيب وواشنطن تعتبر أن وصول طهران إلى المحطّة التي تُمكّنها من القفز إلى إنتاج أسلحة نووية تُشكّل تهديداً ينبغي الحؤول دونه. ولعلّ ما يقلق الجهات الدولية والإقليمية، أيضاً، هو أن جزءاً من عمليات التطوير النووي (وغير النووي) في إيران غير قابل للعودة إلى الوراء، ما دام قد تَحقّق فعلياً، بحسب تقديرات تل أبيب. وهو ما سبق أن حذّر منه العديد من الخبراء، مشيرين إلى أن الوقت ليس لمصلحة إسرائيل.
نبّه التقدير إلى إمكانية أن تقوم إيران بنقل طائرة مُسيّرة من نوع «شاهد 136» إلى اليمن
وفي سياق الدفاع عن استمرار الضغوط الاقتصادية، أشار التقدير الاستخباري إلى أن إيران في وضع اقتصادي صعب وغير مسبوق، لكنه أقرّ بأن هذا الوضع لم يَحُل دون مبادرتها إلى خطوات نووية باتت تحتلّ رأس اهتمامات مؤسّسات القرار في كيان العدو والولايات المتحدة وأوروبا، كما لم يمنعها من دعم حلفائها. وانطلاقاً من الخلفية نفسها، اعتبر أن «المخرج الوحيد من الأزمة بالنسبة إلى إيران يكمن في العودة إلى الاتفاق النووي». وحذّرت المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية من نتائج رفع العقوبات، كون ذلك سيساهم في تعزيز حلفاء إيران في العراق وسوريا واليمن ولبنان، مادّياً وعسكرياً، مع ما سيترتّب على ذلك من ارتفاع مستوى التهديد بوجه إسرائيل. وفي الإطار نفسه، نبّه التقرير إلى إمكانية أن تقوم إيران بنقل طائرة مُسيّرة من نوع «شاهد 136» تحديداً إلى «أنصار الله» في اليمن.
من جانب آخر، تواجه الأجهزة المختصّة في إسرائيل تحدّي فشل تقديراتها الاستراتيجية في العديد من المحطّات المفصلية في مواجهة إيران، وتحديداً في ما يتّصل بمستقبل النظام وتعاظم قدراته واتّساع نفوذه والتفاف الشعب حوله. وضمن هذا السياق، يندرج فشل التقدير بأن إيران ستفلس في حال انخفاض إنتاج النفط عن 650 ألف برميل في اليوم، بحسب ما أكد موقع «واللا» العبري. انخفض الإنتاج في إيران إلى حوالى 250 ألف برميل، لكن لم يَتحقّق ما أمله الإسرائيليون وبنوا عليه رهاناتهم. أكثر من ذلك، فقد بدأ العديد من التقارير في إسرائيل وخارجها بالتحدّث عن أن ذروة الأزمة الاقتصادية في إيران أصبحت وراءها، وهو ما لفت إليه الخبير في الشؤون الإيرانية في «معهد أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب، راز تسيمت، الذي تناول تقارير دولية تتحدّث عن تحسّن الوضع الاقتصادي في الجمهورية الإسلامية، مع إمكانية تحقيق نموّ إيجابي في السنة الجارية، مُحذّراً من أن الرهان على تدهور الوضع في إيران وإجبارها من خلال ذلك على التراجع عن مواقفها الحالية مجرّد «آمال كاذبة».
في ما يتعلّق بالساحة السورية، تَركّز ما تمّ السماح بنشره على توصيف الواقع الاقتصادي والاجتماعي، وخريطة القوى الدولية والإقليمية الموجودة هناك، إضافة إلى استراتيجية «المعركة بين الحروب». ولم ينطوِ العرض على أيّ جديد، بما فيه الحديث عن بعض الإنجازات التي تحتاج إلى مزيد من التدقيق، مع الإشارة إلى أن الطابع العام للتقدير هو فشل تفكيك التحالف القائم بين أطراف محور المقاومة، وهو ما يُعبَّر عنه بفشل إخراج إيران وحزب الله من سوريا. كذلك، اتّسع نطاق الإقرار بأن استراتيجية «المعركة بين الحروب» تطمح إلى كبح أو تبطيء تعاظم قدرات محور المقاومة في سوريا، وهو عين ما كان يُقال عن الاعتداءات في هذا البلد بهدف منع نقل الأسلحة المتطوّرة الكاسرة للتوازن منه وعبره إلى حزب الله في لبنان، لكن تَبيّن بعد سنوات فشل هذه الاستراتيجية. ويُجمل التقدير الاستخباري الوضع القائم بالقول إن «روسيا تَجهد لإعادة النظام السوري إلى عائلة الشعوب والجامعة العربية»، وهو تعبير يُستخدم للإشارة إلى تغيير خيارات دمشق الاستراتيجية. ويضيف التقدير إن روسيا «تساعد الجيش السوري على التسلّح بصواريخ وبأنظمة دفاع جوي. عدا عن ذلك، يحاول الرئيس الأسد ترميم قوات المدرّعات، لكن ببطء».
على مستوى الساحة الفلسطينية، لفت مُعلّق الشؤون العسكرية في صحيفة «هآرتس» إلى أنه منذ بضع سنوات، تشغل هذه الساحة في نظر الجيش الإسرائيلي وشعبة الاستخبارات «أمان»، مكاناً ثانوياً قياساً إلى ما يحدث في الساحة الشمالية، مضيفاً إن الافتراضات الأساسية بقيت على حالها، حتى في بداية السنة الحالية. وبحسب رأي الجيش، اختارت قيادة «حماس» هدنة طويلة المدى مع إسرائيل، على أمل حدوث تحسّن كبير في الاقتصاد والبنى التحتية، فيما لا تبدو السلطة الفلسطينية متحمّسة لمواجهة عسكرية مع إسرائيل. وبالعكس، فإن دخول بايدن إلى الصورة يزيد لديها الأمل في استئناف المفاوضات السياسية.
وكما هو متوقع، وضع التقدير الاستخباري العلاقات مع دول الخليج في إطار أبعد مدى من التطبيع، ورأى فيها تغييراً أساسياً تاريخياً في الشرق الأوسط، من شأنه بلورة كتلة وازنة في مواجهة محور المقاومة. ورأى رئيس الاستخبارات، اللواء تامير هايمن، أن هذا المستجدّ يشكّل فرصة مهمّة لزيادة الضغط على إيران، بل ويمكن أن يشكّل فرصة لبلورة تحالف دولي معها. وأشار التقدير إلى أن العلاقات حَوّلت المواجهة بين المعسكرين إلى مواجهة علنية، مؤكّداً بذلك أن الهدف من كلّ هذا المسار التطبيعي محاولة حماية إسرائيل عبر نسج تحالفات علنية إقليمية ودولية، بعدما تَبدّلت معادلات القوة التي قَيّدت دورها الوظيفي، وأسّست لمسارات إقليمية تمثّل تهديداً جدّياً لأمنها القومي.