تموضع الملف الحكومي من جديد على رفّ المشهد الداخلي، ويبدو أنّ اقامته هناك ستكون طويلة جداً هذه المرة؛ فرئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري، اكّدا من خلال مقاربتيهما المتصادمتين حول ملف تأليف الحكومة الجديدة، ومن خلال المشاعر السياسية والشخصيّة المتبادلة التي يكنّاها لبعضهما البعض، استحالة أن تُخلقَ بينهما «الكيميا» المسهّلة والمحصّنة لتعايشهما تحت سقف حكومي واحد. وتبعاً لذلك، دخلا من جديد في فترة طويلة من انقطاع التواصل بينهما، وأقفلا خلفهما كل الأبواب المؤدية الى إمكان تفاهمهما الآن او في المديين المتوسط والبعيد، على حكومة توافقية ومتوازنة.
بالتأكيد، أنّ تموضع شريكي التأليف خلف متراسي الاشتباك المفتوح، لا يبشّر بخير، بل لن ينتج منه سوى مزيد من التعطيل وتثبيت القطار اللبناني على السكة المؤدية الى الجحيم. فكل الذي يحصل من مناكفات ومصادمات سياسية، تُضاف اليه كل التحركات السياسية والديبلوماسية المحلية والخارجية، تهمل عنصراً اساسياً، وهو قدرة البلاد على الانتظار، أو بالاصح مستوى الصبر الذي لا يزال يختزنه اللبنانيون المحاصرون بهموم معيشتهم اليومية، ما يجعل الإنفجار الاجتماعي هو المتغيّر الوحيد الذي لا يمكن احتسابه، لا سيما أنّ توظيف جائحة الكورونا لإبقاء الناس في منازلهم لن يكون ممكناً الى ما لا نهاية!
تصريف.. طويل
وعلى ما يؤكّد بعض العارفين في خفايا الاشتباك العنيف بين عون والحريري ، فإنّ الفاصل ما بينهما اكبر بكثير من أن يقدر احدٌ على تضييقه او اعادة لحمه، وخصوصاً انّهما ذهبا الى المدى الأبعد في الاشتباك، ووضع كل طرف اوراقه على الطاولة، حاسماً عدم التراجع امام الخصم، وهو ما تبدّى في ما يُنقل عن رئيس الجمهورية وفريقه بحق الرئيس المكلّف، وكذلك في ما يُقال في المقابل، وصولاً الى «خطاب 14 شباط» للرئيس الحريري، والذي وُصف بالخطاب الحربي ضدّ رئيس الجمهورية، لا ينطوي على محاولة مدّ اليد للتوافق على تأليف حكومة، بقدر ما هو صبّ للزيت على النار.
وتبعاً لذلك، بات كل المراقبين يقتربون من اليقين، بأنّ تشكيل الحكومة الجديدة صار بعيداً جداً. ويذهب مرجع سياسي كبير الى أبعد من هذه النظرة التشاؤمية، بتأكيده، انّه مع ثبات عون والحريري على موقفيهما، بعدم التراجع عن شروطهما المتبادلة والمعطلة للحكومة، فبالتأكيد لن يُكتب لحكومة أن تولد بالتوافق بينهما، وبالتالي فإنّ حكومة تصريف الأعمال ستبقى تمارس مهامها من الآن وحتى آخر يوم في ولاية الرئيس ميشال عون.
سيناريوهات
واللافت، انّ هذه الفرضية تتداول بها اوساط سياسية، ومستويات ديبلوماسية عربية وغربية، التقت جميعها عند استحالة توافق عون والحريري على تشكيل حكومة. خصوصاً وانّ كل الوساطات الداخلية، وكذلك المبادرات الخارجية، وعلى وجه الخصوص المبادرة الفرنسية، اصطدمت بهذه الاستحالة، وسلّمت بالفشل النهائي.
على أنّ اخطر ما في هذا الواقع، هو ما توقّعه ديبلوماسيون غربيون من سيناريوهات شديدة السلبية تنتظر لبنان.
تحذير
وبحسب معلومات «الجمهورية»، فإنّ هذه الصّورة الديبلوماسية السوداوية تجاه لبنان، نُقلت خلال الساعات الأخيرة الى معنيين مباشرين في ملف التأليف، مقرونة بالخشية من أن يكون لبنان عاجزاً عن تلقّي الصدمات التي يمكن أن يتلقاها على اكثر من مستوى، او تحمّل تبعاتها وتداعياتها على اللبنانيين، في ظلّ الشلل والخواء والفراغ الحاصل في سلطته التنفيذية.
وتبعاً للصورة الديبلوماسية السوداوية، كشفت مصادر معنية بالملف الحكومي لـ»الجمهورية»، انّ أقصى ما يمكن فعله في المرحلة الحالية، هو أن يبادر اللبنانيون، الى تجهيز العدة اللوجستية للتعامل مع سيناريوهات سلبية جداً، قد تتمخض عن الأزمة الراهنة، سواء على المستوى الاقتصادي والمالي والنقدي والدولار، او على المستوى السياسي، او على المستوى الأمني والشارعي والفلتان المستشري في كل لبنان. ولعلّ أسوأ تلك السيناريوهات ما بدأت تطل نذرها في الساعات الاخيرة، عن التخويف من تحريك خطير للسوق السوداء والتلاعب بسعر الدولار ورفعه الى مستويات شديدة الخطورة، تفضي الى نتائج كارثية على اللبنانيين، والإشارات السلبية بدأت تطلّ في تحريك سعر صرف الدولار أمس، وبلوغه في فترة بعد الظهر عتبة الـ 9 آلاف ليرة.
ونسبت المصادر الى ديبلوماسي اوروبي في بيروت قوله، في معرض ردّه على اسئلة عن السيناريوهات المحتملة في لبنان: «كثيرة جداً هي السيناريوهات التي يمكن ان تواجه لبنان في ظلّ التعطيل الحاصل للملف الحكومي، ولكن من الصعب تحديد اي منها أقرب الى التحقق اولاً، فقد تتحقق كلها دفعة واحدة وعلى كل الصعد، وقد تتحقق في سياق تدّرجي، وكلها قد تأتي ضمن مروحة واسعة من الفوضى الاجتماعية والسياسية، وربما الأمنية، وكلها في ظلّ الوضع الشاذ الذي يشهده لبنان في هذه الفترة، اضافة الى اختناقه الاقتصادي والمالي، تجعل لبنان امام خطر وجودي.
مراسلات: لبنان اهترأ!
وبحسب ما يُنقل عن الديبلوماسي نفسه ايضاً، فإنّه يلقي بالمسؤولية على الطاقم السياسي الحاكم، الذي اوصل الامور الى هذا الحدّ، وتخلّى فعلاً عن لبنان. وكشفت المصادر عن مراسلات نقلها ديبلوماسيون الى الجهات المسؤولة في لبنان، لا تستثني أحداً من معطّلي تشكيل حكومة المبادرة الفرنسية، وفيها ما حرفيّته: «لم يعد خافياً انّ الازمة في لبنان باتت في مرحلة متقدّمة جداً من الاهتراء، ومع الاسف، لا نرى حرصاً من المسؤولين المعنيين في لبنان، على لبنان، بل بالعكس، نرى تضحية بلبنان من أجل مصالح هؤلاء السياسيين، نحن في اعلى درجات خشيتها، وخوفنا من هذه السياسة، على لبنان وكل ما تأسس عليه قبل مئة عام».
المبادرة.. نامت
على أنّ ما استجد في الساعات الأخيرة من رفع لمستوى التوتير بين رئيس الجمهورية وفريقه السياسي من جهة، وبين الرئيس المكلّف وتياره من جهة ثانية، بنى جداراً صعّب على اية مبادرات خارجية قدرة النفاذ منها الى الداخل اللبناني، كعنصر مساعد او معالج للأزمة الراهنة، وتبعاً لذلك، وعلى ما تؤكّد مصادر مواكبة للحراك الفرنسي، فإنّ المبادرة الفرنسية أُعيدت الى السرير، ونامت من جديد، بعدما مُنيت بفشل جديد، جرى التعبير عنه بالصدام المتجدد بين عون والحريري، وتبادلهما لغة الافتراق وليس لغة الالتقاء، على حلبة تلك المبادرة.
ماذا لو تخلّوا عنا؟
ومع اصرار المعطلين على منع تشكيل حكومة يمكن ان تضع لبنان على سكة الإنفراج، ينبري السؤال التالي: امام تخلّي الطبقة الحاكمة عن لبنان وتقديمها مصالحها عليه، ماذا لو قرّر المجتمع الدولي أن يطوي صفحة لبنان، ويترك اللبنانيين يقلعون بأيديهم الشوك الذي زرعوه في بلدهم؟
تؤكّد مصادر ديبلوماسية لـ»الجمهورية»، انّ المجتمع الدولي ليس متخلياً عن لبنان، وهو حدّد للمسؤولين اللبنانيين الباب الذي يمكن ان يدخل من خلاله لتقديم مساعدات ملموسة للبنان، تمكنه من تجاوز ازمته، اي من باب الإصلاحات التي توفرها حكومة جديدة، وفق مندرجات المبادرة الفرنسية، ولكن بان للمجتمع الدولي بشكل لا يرقى اليه الشك، بأنّ ثمة اطرافاً في لبنان تدفع في اتجاه ان يتخلّى المجتمع الدولي عن لبنان، عبر السياسة التي تعتمدها هذه الاطراف في تعطيل تشكيل الحكومة، تحت ذرائع وحجج متعددة، تسعى الى افراغ مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون من محتواها الذي تلخصة حكومة مهمّة متوازنة، من اختصاصيين لا حزبيين.
معركة مكاسرة!
يتقاطع ذلك، مع قراءة مرجع مسؤول للمشهد المعطل، عكسها بقوله لـ»الجمهورية»: «من الاساس كانت الصورة تؤكّد انّ الامور بين الرئيسين عون والحريري ستصل الى هذا الحدّ. ولديّ من المعطيات ما يجعلني متأكّداً انّهما سيمضيان في معركة «مكاسرة» سياسية وشخصيّة، من شأنها ان تشعل المزيد من الفتائل السياسية والطائفية، وأخشى ان تكون لها ترجماتها الخطيرة على الارض».
واستبعد المرجع «ان يسحب الرئيس ماكرون مبادرته، فهو علّق عليها كل رصيده السياسي، كما قال في بيروت. ولكن امامه مهمة شاقة في ظل الافتراق الحاصل بين عون والحريري، والذي يشكّل العائق الاساس امام المبادرة. وقد يسأل البعض، لماذا لا تتمّ مصالحة عون والحريري، وانا أجيب سلفاً، انّ المسألة ليست مسألة تبويس لحى، المسألة لها بعد جوهري اساسه الرفض الكامل والنهائي للآخر، وعليه، فإنني أعتقد انّ المكاسرة بينهما ستستمر من الآن وحتى نهاية العهد. فلا ماكرون ولا غير ماكرون قادر على ان يقرّب ولو سنتيمتراً واحداً ما بين عون والحريري، وبالتأكيد بين جبران باسيل والحريري».
سياسة النفس الطويل
الّا انّ لمسؤول وسطي قراءة أخرى، ينطلق من الاشارة الى الرغبة التي أبداها الرئيس ماكرون بأنّه سيكون حاضراً بزخم في الملف الحكومي الآن، وفي المرحلة المقبلة.
وقال: «لكن يجب ان ننظر الى الامور بواقعية، ولا نبني آمالاً في الهواء. فالمبادرة الفرنسية لم تكن صلبة من الاساس، ولم تملك قدرة الإلزام بها، ربما يجري تدارك هذا الامر من قِبل الفرنسيين. فهي من الاساس كانت «مكرسحة» تتوسل الدعم الاميركي لها. واعتقد انّ باريس، وبرغم اندفاعتها الاخيرة باتجاه لبنان، لا تزال عاجزة عن التحرك بشكل مستقل عن الاميركيين، الذين تبدو جهودهم منصبّة حالياً على الملف الايراني اساساً، بما يعني أنّ ما عدا ذلك من ملفات لا يفترض حلّها بالمباشر وانما بالتبعية».
على هذا الاساس، يضيف المسؤول الوسطي، فإنّ محاولات ماكرون لا تخرج عن نطاق سياسة النفس الطويل، التي تتطلب عدم استنفاد صبر الحدود، الى أن تصبح الظروف الاقليمية، وخصوصاً المتصلة بالاتفاق النووي (الايراني – الاميركي)، متاحة لقطف الثمار لبنانياً، ما يعني أنّ كل ما يمكن للرئيس الفرنسي فعله في الوقت الراهن لا يتعدّى محاولة كسب الوقت، وتحصين مبادرته اقليمياً، حتى لا تنتقل من حالة الموت السريري الى حالة الموت الفعلي.
تراشق
الى ذلك، انضبط المشهد السياسي في الساعات الماضية على ايقاع ارتدادات الخطاب الناري المتبادل بين القصر الجمهوري وبيت الوسط. فغداة الخطاب العنيف للرئيس المكلّف امس الأول، وتركيزه في معظمه في اتجاه رئيس الجمهورية، شهدت مواقع التواصل والمنصات الالكترونية حرباً اعلامية عنيفة بين «التيار الوطني الحر» وتيار «المستقبل»، استُخدمت فيها تعابير هجومية نارية، ذهب بمعظمها ابعد من الإطار السياسي الى الشخصي وبالعمق.
روسيا على الخط
في هذا الوقت، سُجّل دخول روسي واضح على خط الأزمة، تمثل في اتصال هاتفي جرى امس بين الرئيس المكلّف سعد الحريري والمبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط ودول أفريقيا، نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف.
وبحسب بيان للخارجية الروسية، فإنّ الحديث خلال الاتصال تناول مسألة الازمة الاجتماعية والسياسية التي يمرّ بها لبنان، حيث جرى التشديد على ضرورة التشكيل السريع لحكومة مهمّة برئاسة سعد الحريري الحائز على اغلبية الاصوات في البرلمان، وكذلك التكليف من رئيس لبنان ميشال عون. كما تناول الطرفان مسألة مساعدة الجانب الروسي للبنان في مكافحة مرض كورونا، بما في ذلك ارسال دفعة لقاحات الى بيروت.
وفي السياق، اتصل بوغدانوف برئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط، وجرى عرض مختلف الأوضاع العامة وضرورة الاسراع في تشكيل الحكومة اللبنانية، وأهمية مبادرة روسيا للمساعدة في هذا المجال وتواصلها مع الأطراف المؤثرة، بما يساعد في تخطّي العراقيل المصطنعة التي تعطّل الولادة الحكومية.
كورونا ولقاحات
من جهة ثانية، وفيما سُجّل في الساعات الاربع والعشرين الماضية انخفاض ملحوظ في عدد الاصابات بفيروس كورونا، حيث سُجّل 1739 اصابة، و44 حالة وفاة، بدأت عملية التلقيح ضدّ هذا الفيروس في المناطق. وأُفيد في هذا السياق عن زيارة سيقوم بها وزير الصحة حمد حسن الى روسيا قريباً لاجراء مفاوضات حول استقدام لقاح «سبوتنيك في» الروسي الى لبنان بكميات كبيرة جدا. وتأتي هذه الزيارة بعد اتصالات جرت بين لبنان وروسيا في هذا الخصوص تكلّلت بالنجاح، الّا انّها تحتاج الى تقديم عرض حكومي لإنجازها.
الى ذلك، أكّد مدير «مستشفى بيروت الحكومي الجامعي» فراس الأبيض، أنّ «رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. أمس، اكثر من 1000 تلقوا اللقاح. البارحة ايضاً، اظهرت ارقام الكورونا انّ نسبة الفحوصات الموجبة لا تزال مرتفعة، وانّ اسرّة المستشفيات لا تزال ملأى». وأضاف على «تويتر»: «القطار انطلق، وعلينا جميعاً العمل لنشر اللقاح، كي يكون ما امامنا افضل مما مضى».
بدوره، أكّد نقيب الاطباء شرف أبو شرف، اننا «سنستمر بالحفاظ على التدابير الوقائية لحين الوصول الى المناعة المجتمعية، واللقاحات خففت من خطر الإصابات القاسية والوفيات».
وأشار إلى «أننا متقيّدون بالتدابير حتى يحصل 80% من المواطنين على اللقاح. ونسب اللقاحات التي ستصل الى لبنان تكفي لـ50% من الأشخاص، على أمل أن نصل الى المناعة المجتمعية في منتصف العام المقبل». وشجّع «الجميع على التسجيل على المنصة التابعة لوزارة الصحة للحصول على اللقاح»، لافتاً إلى أنّ «بعض المستشفيات الخاصة يأخذ من مرضى كورونا مبالغ مالية، وهذا أمر مرفوض، ووزارة الصحة يجب أن تغطي التكلفة 100%». واعتبر أنّ «علينا التعاون معاً، وعلى الدولة أن تؤمّن كل الناس. ومرفوض أن يخاف المريض من التوجّه الى المستشفى لأنّه لا يملك التكاليف».
الجمهورية