تحقيق قاسم صفا
صور توأم التاريخ والآثار وحكاية ازدهار منذ القدم
أسوارها المنيعة صدت نبوخذ نصر ومعالمها تحاكي العصور
قلما يذكر اسم صور إلا مقترنا بالحديث عن التاريخ والآثار والحضارة.
مدينة صور وجدت في الزمن الغابر واشتهر سكانها بحبها وبالدفاع عنها ، وقد عاصرت كل الدول والامبراطوريات وفتحت اشرعتها وسافرت الى كل انحاء المعمورة تنشر العلم والحضارة والمعرفة.
هي مركز القضاء وأحد أقضية محافظة الجنوب اللبناني. تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط وتعتبر من أشهرحواضر العالم عبر التاريخ للدور التي لعبته في الحقبة الفينيقية ان كان من ناحية سيطرتها على التجارة البحرية أو إنشائها المستوطنات التجارية حول المتوسط ونشر الديانات في العالم القديم، وانشائها مستوطنة قرطاجة التي قارعت الدولة الرومانية، أو مقاومتها لزحف الإسكندر المقدوني.
تبعد مدينة صور عن العاصمة بيروت حوالى 83 كيلومترا، وترتفع عن سطح البحر حوالى 100 وتمتد على مساحة تقدر بـ 6.75 كيلومترا، ويسكن فيها نحو 150 ألف نسمة.
يعود تاريخ تأسيس صور إلى بدايات الالف الثالث قبل الميلاد، وكان عصرها الذهبي في غضون الألف الأول قبل الميلاد. وفي القرن العاشر قبل الميلاد قام ملكها حيرام بإنجاز عدد من المشاريع العمرانية، فوصل الجزر ببعضها وردم جزءا من البحر بهدف توسيع رقعة المدينة الساحلية. ثم تجاوزت حدودها بفضل اقدام تجارها وبحارتها الذين جابوا البحر المتوسط ووصلوا إلى سواحل المحيط الاطلسي، وأسسوا المستعمرات والمحطات التجارية، ومن بينها قرطاجة في تونس حاليا.
غير أن ازدهار صور لم يلبث ان جلب إليها المتاعب. ففي القرن السادس قبل الميلاد حاول الملك البابلي نبوخذ نصر احتلال المدينة، غير ان اسوارها المنيعة حالت دون ذلك، فحاصرها مدة ثلاث عشرة سنة. وفي العام 332 قبل الميلاد حاصر الاسكندر الكبير المدينة مدة سبعة أشهر بسبب عدم خضوعها له على غرار المدن الفينيقية الأخرى. ويروى ان غيظ الاسكندر امام المقاومة الصورية وامام الخسائر التي تكبدها دفع بالمقدوني إلى تدمير نصف المدينة البحرية وقتل رجالها وسبي نسائها وأطفالها. بعد مضي نحو ثلاثة قرون على ذلك الحدث خضعت صور للسيطرة الرومانية، على غرار سائر المدن الفينيقية. الا انها تمكنت في تلك الايام من الاحتفاظ بشيء من الإدارة الذاتية، ولا سيما الحق بصك العملة الفضية والبرونزية. وأقيم فيها في العصر الروماني عدد من المنشآت المهمة. وعرفت صور الديانة المسيحية في وقت مبكر، وهي التي يرد اسمها في نصوص العهد الجديد. وفي حكم العصر البيزنطي عرفت صور فترة من الازدهار تشهد عليها آثار ابنيتها ومدافنها وكتاباتها. وكان لاسقفها مركز الرئاسة بين اسقفيات المدن الفينيقية.
وفي العصر الحالي نالت مدينة صور نصيبها الوافر من التعديات والاجتياحات العدوانية من العدو الاسرائيلي، كما سجلت في تاريخ الامة والوطن أروع ملاحم البطولة والتصدي لكل أنواع الظلم والاستبداد والاحتلال الاسرائيلي.
عام 634 دخلت جيوش المسلمين المدينة من دون أي مقاومة تذكر، فتابعت مسيرة ازدهارها في ظل الأمويين والعباسيين، غير أن ضعف الخلافة العباسية مكن المدينة من بلوغ شيء من الاستقلال الذاتي في ظل حكم قضاتها من اسرة بني عقيل. وكان من شأن اسوار صور المنيعة ان يؤخر سقوطها على أيدي الصليبيين الذين لم يتمكنوا من احتلالها إلا عام 1124، أي بعد عشر سنوات من سقوط آخر مدينة ساحلية في قبضتهم، وظلت المدينة تحت السيطرة الصليبية حتى عام 1291 حين استولى عليها المماليك. وفي بدايات القرن السادس عشر، دخلت صور كبقية مدن المنطقة في فلك السيطرة العثمانية، وبقيت على هذه الحال إلى أن أصبحت جزءا من دولة لبنان الكبير غداة الحرب العالمية الأولى.
صور الحالية
تبلغ مساحة القضاء في مدينة صور الحالية 418 كيلومترا مربعا تمتد على شريط ساحلي من مجرى نهر الليطاني شمالا حتى الحدود الدولية جنوبا، بعمق يراوح بين 15 و20 كيلومترا. يضم هذا الشريط سهلا زراعيا خصبا تنتشر فيه بساتين الموز والحمضيات التي تستحوذ على نسبة مهمة من إنتاج تلك الزراعات على المستوى العام.
يحدها من الشمال قضاء صيدا – الزهراني، ومن الشرق قضاء بنت جبيل، ومن الجنوب الحدود الدولية مع فلسطين.
يضم قضاء مدينة صور 65 قرية وبلدة ومزرعة هي: برج رحال، بدياس، الحلوسية، الحميري، طيرفلسه، ديردغيا، معروب، ارزون، شحور، صريفا، النفاخية، البرغلية، برج الهوا، الشبريحا، العباسية، طورا، معركة، باريش، طيردبا، البازورية، برج الشمالي، جويا، دبعال، بافليه، المجادل، ديركيفا، الشهابية، يانوح، وادي جيلو، عيتيت، محرونة، البياض، دير عامص، عين بعال، حناويه، صديقين، جبال البطم، زبقين، الحنية، العزية، الناقورة، دير قانون النهر، دير قانون رأس العين، قانا، المنصوري، مجدل زون، جناتا القليلة، دير عامص، مزرعة مشرف، عيتيت، الرمادية، باتولية، يارين، مروحين، الزلوطية، ام التوت، البستان، رشكنانية، البياضة مزرعة مشرف، الكنيسة، المالكية، الشعيتية، السماعية. كما تضم منطقة صور عددا من المخيمات الفلسطنية ابرزها: الرشيدية، البرج الشمالي، البص.
وفي قضاء صور في بلدة الناقورة، المقر العام للامم المتحدة منذ دخول اليونيفيل الى الجنوب عام 1978.
معالم سياحية وأثرية
تعتبر صور من المدن القديمة ذات التاريخ العريق، وفيها آثار عديدة من كل الحقبات التاريخية المتعاقبة كالإغريقية والبيزنطية والعربية والعثمانية.
ومنذ نحو خمسين سنة، تقوم مديرية الآثار بحملات تنقيب واسعة في نطاق صور وفي محيطها بحثا عن آثار المدينة وتاريخها، وبنتيجة تلك التنقيبات وما اسفرت عنه من نتائج مهمة، قامت منظمة الاونيسكو عام 1979 بإدراج صور على لائحة التراث العالمي.
ومن الموقع الذي كانت تقوم عليه في ما مضى صور البحرية ويشتمل على مجمعات واسعة من الاحياء السكنية والحمامات العامة والمجمعات الرياضية والشوارع ذات الاروقة وذات الأرضية المرصوفة بالفسيفساء.
وتعود تلك المنشآت بمجملها إلى العصور الرومانية والبيزنطية، ناهيك ببعض بقايا أرصفة المرفأ الفينيقي الجنوبي، أو المرفأ المصري، التي لا تزال منتشرة قرب الشاطئ.
كذلك عثر على بقايا كاتدرائية صور الصليبية التي استخدمت في عمارتها اعمدة من الغرانيت الاحمر واحجار تم استخراجها في حينه من المنشآت الرومانية.
ويطالعنا شارع أقيم في العصر الروماني، وجرى ترميمه في العصر البيزنطي، في وسط البرزخ الذي أنشأه الاسكندر الكبير. وتحيط بجانبي هذا الشارع الاروقة ويقطعه قوس نصر عظيم ذو ثلاث مداخل، وتجري على جانبه الجنوبي قناة معلقة على قناطر كانت معدة لجر مياه نبع رأس العين إلى المدينة.
وعلى جانبي الشارع تمتد جبانة واسعة تتداخل فيها العمائر الجنائزية والتوابيت الرخامية والكلسية والبازالتية ذات الاشكال والزخارف والمنحوتات المختلفة، وقد دامت فترة استخدام هذه الجبانة من القرن الثاني إلى القرن السادس بعد الميلاد.
والى الجهة الجنوبية من الجبانة، يقوم ميدان سباق عربات الخيل الذي تم ترميم بعض أجزائه. ويبلغ طول هذا الميدان 480 مترا، وكان يتسع لنحو 20000 مشاهد كانوا يراهنون فيه على المتبارين. وقد كان على هؤلاء ان يدوروا بعرباتهم سبع مرات حول الشوكة التي تتوسطه، وفيه تقام كل عام مهرجانات صور التراثية.
الاسواق القديمة
لا بد لزائر مدينة صور أن يجول في أسواقها القديمة، حيث يرتفع خان من العهد العثماني، ومنزل قديم وجميل من العصر عينه تملكه إحدى أسر صور من آل المملوك، بالإضافة إلى مسجد الطائفة الشيعية ذي القبتين والعمارة الرائعة والمسجد الكبير للطائفة السنية.
وعلى مقربة من السوق، يعج مرفأ الصيد القديم بالحياة، وقد حل محل المرفا الفينيقي الشمالي، الذي كان يعرف بسبب موقعه بالمرفأ الصيدوني.
ويقود الطريق الملازم للرصيف إلى الحي المسيحي الذي لا يزال يحتفظ بأزقته وأبنيته ذات النمط التقليدي. وقد يفاجئك وجود برج مراقبة من العصر الصليبي في أحد البساتين، فيما يقوم برج آخر من العصر عينه على مقربة من المنارة، يشهدان على أهمية صور في تلك الايام،
كما يوجد في صور عدد من الكنائس وهي من أروع ما شهد فن البناء والهندسة المعمارية، وهي كنيسة سيدة البحار المارونية وكنسية مار توما الكاثوليكية، كما تضم الحارة المسيحية كما يحلو للاهالي تسميتها، كنيسة للطائفة الأرثوذكسية وكنيسة انجيلية. وفي صور أيضا العديد من دور العبادة والمنتديات الثقافية والنوادي الرياضية والملاعب الرياضية الخاصة والعامة.
وتزخر مدينة صور التي منها انطلق الحرف بالمدارس الرسمية والخاصة المتوسطة والثانوية، وفيها عدد من الفروع للجامعات اللبنانية الخاصة.
وتفتح المواقع الأثرية أبوابها أمام الزائرين طيلة ايام الاسبوع، وتزخر المدينة بعدد من المطاعم التي تقدم أشهى ثمار البحر، بالإضافة إلى المطاعم التي تقدم الاطباق المحلية والمقاهي المنتشرة على طول أرصفة المرفأ.