ذو الفقار قبيسي – اللواء
مطالبة الاتحاد العمالي العام بغلاء معيشة ورفع الحد الأدنى للأجر وزيادة الأجور، هي مطالبة محقة وفي الاتجاه الصحيح، بإستثناء ان نحو ٩٠% تقريبا من شعب لبنان نصفهم من ذوي الدخل المحدود ونصفهم الآخر عاطلون عن العمل من ذوي الدخل المفقود! خلال أزمة اقتصادية وجائحة وبائية. يضاف، وكما في سلسلة الرتب والرواتب أن ما يحصل عليه العامل باليد اليمنى يطير باليد اليسرى وسط كتلة نقدية اتسعت في عام واحد بنسبة ١٥٠% وتضخم ارتفع بنسبة ١٤٠% وغلاء أسعار جزء كبير من السلع المعيشية والضرورية بـ٤٠٠% لا سيما المستوردة وغير المدعومة من ضمن «السلة الغذائية».
ففي احصاءات سبقت الأزمة الأخيرة أن الجزء الأكبر من الرواتب والأجور في لبنان لا يذهب الى سلع تنتجها صناعة وطنية تزيد في الناتج وتنهض بالاقتصاد، وإنما الى سلع غالبا مستوردة بلغت قبل الأزمة الأخيرة أكثر من ٥ أضعاف الصادرات! فالانفاق في لبنان عموما لا يبقى في الداخل بل الى خزائن دول في الخارج. وتكون النتيجة حسب احصاءات لما قبل الأزمة:
١- حوالي ٤٠% من الموازنة فاتورة الأجور يذهب الجزء الأكبر منها الى الخارج لاستيراد سلع من بلدان أجنبية.
٢- حوالي ١٥% من الموازنة فاتورة الكهرباء، تذهب لاستيراد فيول من الخارج.
٣- وجزء من الـ٢٥% في الموازنة فاتورة الدين العام يذهب فوائد بالعملة الأجنبية على الدين العام لمستثمرين عرب وأجانب.
وهكذا حوالي ٦٠ الى ٦٥% من الانفاق في لبنان جزء كبير منه من الأجور وزياداتها، يذهب الى الخارج، يضاف إليه ما يجري نهبه أو هدره في الداخل على يد نظام المحاصصات والمحسوبيات.
وهذا الوضع الاقتصادي – الاجتماعي يصيب بأضراره عمالا كما عاطلين عن العمل ولا يمكن الاعتماد أو الاتكال على معالجته بـ «زيادات» لا تحصل حتى تتناقص وتختفي، وإنما بمكتسبات وضمانات تزداد وتنمو. من توفير الخدمات الأساسية لكل مواطن في الصحة والتعليم والتدريب والتأهيل، الى تحديد نسبة الربح في مختلف أنواع السلع والخدمات، والحد من الاحتكارات، وإعادة النظر في صيغة حصرية الوكالات، وتطبيق الضريبة التصاعدية، وزيادة الناتج المحلي والدخل القومي عبر الاستثمار في القطاعات المنتجة مثل التكنولوجيا واقتصاد المعرفة وسلع المزايا التنافسية، ودعم المؤسسات الصغيرة والناشئة، وتكبير حجم الاقتصاد بما يحمي العامل كما العاجز أو العاطل عن العمل والذي سواء بقيت الأجور على حالها أو زادت لا يصله من هذه الزيادة حتى ولو بثقب صغير أو «شروى نقير»!، بل بالعكس ستلحق به هذه الزيادة أضرارا لجهة ان ارتفاع فاتورة الأجور على القطاع الخاص يحد من إمكانية توظيف المزيد من العمال، وارتفاعها على القطاع العام يدفع الدولة الى فرض المزيد من الضرائب التي ترهق العامل وغير العامل. بل وتضرّ أكثر بغير العامل الذي لا أجر له ولا دخل ومع ذلك يصاب بتضخم الأسعار. فالقاعدة الاقتصادية أن زيادة الأعباء على المواطن إضافة الى تأثيرها السلبي على النمو، هي أكثر ضررا على الاقتصاد من ارتفاع الدين العام.
والمثل الأفضل من أولوية الضمانات والمكتسبات على زيادة الأجور والمرتبات، من بريطانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث حكومة العمال برئاسة كليمنت اتلي التي ورثت حكومة الحرب الائتلافية برئاسة ونستون تشرشل، لم تلجأ الى رفع الأجور المنهارة بل الى ما أسمته خطة «مقاومة الشر الأعظم» بخطة Beveridge ١٩٤٢ التي ضمنت ما أسمته «حق الكفاية للمواطن من المهد الى اللحد» From Cradle To Grave والتي نصت على عدم جدوى الاكتفاء بعمل الاحسان ومشاريع الخير وزيادة الأجور بالانتفاخ والتضخم وإنما بقوانين ١٩٤٤ و١٩٤٦ مكافحة البطالة والفقر وعوز التقاعد، ومخصصات ثابتة لكل طفل ثانٍ في العائلة وللأرامل واليتامى ومنح لكل حالات الولادة والموت، وصولا الى جوهرة العقد الفريد قانون الضمان الصحي المجاني الشامل The National Health Service لكل فئات الشعب من مواطنين ومقيمين ودونما حاجة لوساطة أو شفاعة أو محسوبية أو استنساب، وقانون رعاية الأطفال من الاهمال العائلي وحماية العمال من مخاطر الحوادث الصناعية.
لنصل إلى الدرس والنتيجة في لبنان بأن زيادة الرواتب والأجور بالطريقة الاصطناعية الانفلاشية والتضخمية، لا يجوز أن تكون للنقابات العمالية البديل «الشعبوي» عن فشلها في الحصول من الدولة عن حقوقها الطبيعية من ضمانات ومكتسبات اجتماعية لمجرد إرضاء القواعد العمالية بانتصارات وهمية لا تسمن ولا تغني من حاجة أو جوع بل تزيد الفقر والعوز كما حصل في كارثة سلسلة الرتب والرواتب التي جاءت بديلا لغائب في عجز عن انتزاع الضمانات والمكاسب.