غسان ريفي – سفير الشمال
لم يعد في معاجم اللغة من وصفٍ يمكن أن يُطلق على السلطة السياسية في لبنان سوى تلك التي قد يتحمل مطلقها تبعات قانونية من القدح والذم، والتي قد تمتهن ما تبقى من كرامة لدى المسؤولين الذين بدأوا بالتخلي عنها عندما قرروا المتاجرة بشعبهم ولقمة عيشه وصحته وتعليمه وآلامه التي ترخي بثقلها على تفاصيل حياته اليومية.
لم يعد هناك من أقنعة، بل هي سقطت جميعها لتُظهر وجوها على حقيقتها من التوحش والبشاعة يسعى أصحابها الى تحقيق سلة من المصالح والمكاسب على حساب فقراء الوطن وما أكثرهم بفضل سياساتهم، غير آبهين بتاريخ يكتب ويسجل ويحجز لهم مكانا في مزبلته.
رئيس الجمهورية “حط بحصة” لكثير من العرافين، فتحققت توقعاته في ذهاب اللبنانيين الى جهنم في فترة قياسية، من دون أن يحرك ساكنا تجاه القيام بأية مبادرة إنقاذية، بل على العكس، فهو يصر على الثلث المعطل، وعلى التمسك بشروطه وبحصصه الرئاسية في الحكومة من وزارة العدل الى وزارة الداخلية، فيما يطلق مكتبه الاعلامي صليات يومية من البيانات ترفع من السواتر بين بعبدا وبيت الوسط.
الرئيس المكلف لا يغادر المبادرة الفرنسية، ولا يجرؤ على التأليف من دون نيل الرضى السعودي، ولم يعد بمقدوره التنازل خوفا من غضب شارعه، ولا الاعتذار خوفا على مستقبله السياسي، ما يضطره للهروب الى الأمام بجولات خارجية يشغل نفسه بها في الوقت الضائع ويحاول من خلالها حشد الدعم للبنان متناسيا أن “ألف باء” الدعم والمساعدات لدى كل الدول هو تشكيل حكومة.
رئيس حكومة تصريف الأعمال لا حول له ولا قوة، ولا قدرة له ولحكومته ولوزرائه على إتخاذ قرار يمكن أن يخفف من وطأة الأزمات سوى الاجتماعات التي لا تسمن ولا تغني من إنقاذ.
رئيس التيار الوطني الحر يتحصن خلف أسوار بعبدا، ويواجه الرئيس المكلف بمآسي ومعاناة شعب لبنان العظيم، تحت عنوان إنتزاع الحقوق ووحدة المعايير والحفاظ على الصلاحيات، متناسيا أن كل ما يتشدق به ويحاول إستمالة الشارع المتهالك تحت وقع الأزمات، يسقط بالضربة القاضية أمام صرخة فقير أو أنين جائع أو عجز مواطن بات يحتاج الى عشرة آلاف ليرة لبنانية ليشتري دولارا أميركيا واحدا.
كثير من القوى السياسية نسيت أو تناست أن هناك أولوية لتشكيل حكومة إنقاذ، وأن البلد يكاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، فسارعت القوات اللبنانية الى إحياء الاصطفافات السياسية والطائفية من خلال فرض نفسها ومنطقها وخطابها على “سبت بكركي”، الذي وجد سريعا من يتبناه ويهلل له من الكتائب الى فلول 14 آذار الى الحرس القديم في تيار المستقبل، في حين إنشغل حزب الله في كيفية الرد السياسي المنمق من دون أن يكسر الجرة مع الكاردينال الماروني بشارة الراعي الذي تلمس خطورة ما حصل، وسارع الى توضيح الكثير من المواقف التي أعادت طمأنة الجميع بأن الأمر لا يتجاوز السقف الوطني ولا يخرج عن إطار إتفاق الطائف.
لكن ما خرج عن الاطار وتجاوز كل السقوف هو الدولار الأميركي الذي بلغ عشرة آلاف ليرة وحبل إرتفاعه على الجرار، ففي الوقت الذي بدأ فيه الجوع يدق أبواب اللبنانيين الغارقين في ظلام التقنين الكهربائي، والرازحين تحت وطأة أزمات الغلاء وفقدان الأدوية والمحروقات وحجز أموالهم في المصارف، ما تزال السلطة السياسية تناقش في شكل ومضمون الحكومة وكأنها تنتقم من مواطنيها وصولا الى إذلالهم أم أنها تعيش على كوكب آخر، أو تفتقد الى الحس الوطني والمسؤولية الوطنية حيث لم تكلف نفسها أمس عناء عقد إجتماع للبحث في التطورات المالية وكيفية مواجهتها.
جنون الدولار إنعكس جنونا شعبيا، حيث سارع المواطنون الى الشوارع وعملوا على قطعها بالاطارات المشتعلة في ظل حالة غضب مخيفة مرشحة للتصاعد إعتبارا من اليوم، الأمر الذي قد يُشرع الأبواب أمام الفوضى التي قد تبدأ خلاقة وتنتهي مدمرة تتسبب بتغيير النظام، وذلك إذا لم يسرع أهل الحكم في تهدئة الشارع بتشكيل حكومة إنقاذ قبل فوات الأوان.