الجمعة, نوفمبر 22
Banner

فقيه الأمّيين…

نبيل مملوك

زيارتي للمكتبة العامة في مدينتي… المدينة التي لا تقرأ سوى إلتزامات قاطنيها، ومشاكلهم ووصايا الموتى المكتوبة ريحها على شواهد القبور صار عمرها اليوم أربع سنوات… مضت أسرع من استراحة البصر من غزو المشهد… منذ أربع سنوات أدخل هذا الصرح الضخم ، المنفي ، المتروك الا من غباره وعتمته وفرادته… كتب بالعربية تتوزع بين شعر ورواية ونقد وقصص قصيرة وسياسة واجتماع وفلسفة، ورفوف اخرى للغات الأجنبية… ولمجالات ثقافية متفرقة… الرفوف مزركشة بأصالة خشبية عتيقة… والطاولات تحمل ملامح المستريح من المواعيد واللحظات الحاشدة بضجيج القراء والمتناقشين أو حتى من تنهيدات متقاعد يقرأ “النهار” أو “paris match” منذ أربع سنوات وقدومي من منزلي اللصيق بها يتكلل باستراحتها هي وأمينها من أنفاس المترددين عليها…

كان يجلس على مكتبه ، رحب بي كعادته باقتضاب، وهدوء لم يتدخل بي قط ، لم ينصحني بكتاب أو أسماء اصدارات شعرية جديدة…هو الخمسيني الذي غادر الشعر موطن رأسه وغاب الشباب عن قرى بشرته، متوسط القامة يتخذ من مشيته قصيدة موجزة تؤدي غرضها المدهشة وتستكين في دفة الجلوس… هكذا هو العم إبراهيم….الذي لا أعرف إن كان ابن بلد أو موظف يؤدي عمله كغريب … قليل الكلام، يتعاطى معي على أنني في بيتي ، لا يستعجل رحيلي ولا يحتضن خطواتي…كل ما يفعله أنه يشرد… يفكر وأحيانا أتمنى لو أني قادر على التوغل في أعماقه “هل يفكر بحبيبة كسرته؟ هل يفكر بوضع البلد وغلاء الكتب؟ هل يفكر بقلة المترددين على هذا الصرح الذهبي؟أو يعدد أوراق عمره التي سقطت سهوًا من شجرة الروح؟” آه يا ليتني أعرف… لكن شخصيته لم تكن تقلقني بقدر ما كان يقلقني غياب ردة فعله عن الكتب التي أستعيرها… أقلها لاني اتجاوز العدد المسموح استعارته (يمنع استعارة أكثر من كتابين) أما أنا فلا أخرج بأقل من سبعة كتب… ظننت أنه من محبته وثقته التي صار عمرها أربع سنوات لا يحارجني وبحكم الجيرة والنبي وصى على سابع جار… لكن لمَا لا يحدق مليًّا في الكتب؟ في عناوينها؟ في أغلفتها يستلمها مني كأنه يستلم كيس سكر أو علبة زبدة حجم وسط؟ “حتى أنت يا عم ابراهيم ما عدت تحارج وتناقش” سألته ذات مرة فقال لي “اهلا وسهلا باستاذ نبيل … التنين ما رح نفتح لأسباب خاصة” … تعمدت الثلاثاء أن اشتري عددا جديدا من مجلة play boy ، أن أدخلها معي لاستفزه لأجعله يتكلم، رغم أني من هواة قراءة أجساد العارضات وتفاصيلهن” الاباحية” وفقًا للخطاب التراثي…استعرت مجموعة الحياة كما لم تحدث لشوقي بزيع ورواية لم أعد أذكر عنوانها…ودسست عدد المجلة في المقدمة لاستفزه … ليرى صورة الشقراء الممتلئة الفاتنة الخادشة بضجيج تفاصيل جسدها زهده وشروده…لاجعله يقرأ عناوين العدد علها تغويه فأخلق مطلعا لصداقة تكسر جليد عمره سنوات وتبدأ صداقة ونقاش ثقافي أو أستفزه وينهرني ويوبخني… حدق لثوانٍ في جسدها… احمر وجهه الأبيض ظننته عاد اليه نبض الشباب والمراهقة … واعاد لي العدد واخذ الكتب المرتجعة مني وغرق بين الرفوف…

لم أغادر، بلغ السيل الزبى!!! كيف يعينون أمين مكتبة صامت لا يناقش القراء الأوفياء لصرحه بالكتب التي يسائلونه بفحواها؟ كيف يتعامل منذ اربع سنوات اقلها بتسليع مع ما يجعل الانسان إمام مجتمعه؟لم استطع انتظرته سائلا

“هلق عم شو رأيك بمجموعة شوقي بزيع الجديدة قريتها؟

لم يجب….

الحياة كما لم تحدث الصادرة عن دار الاداب

…………

– طب بتحب الشعر العمودي شكلك صح؟

-بجوز

– قاري للحمداني

-ممكن

-طب سامع بأبو تمام

-ابو تمام، ولووووو عيب يا استاذ متل ما بعرف اسمي بعرفو لشاعر بلاد الشام

– اكيد المتنبي مستحيل ما تقلي لأ

-يمكن اي ويمكن لا

-الخيل والليل والبيداء تعرفني

– والسيف والرمح والقرطاس والقلم….

-اها هياك قاري!!! لي ما بتناقشني لي طيب

-بشو

-باللي بقراهن

التفت وقال لي أن الدوام على وشك النهاية … نتحدث لاحقا

فعاجلته بسؤال :

-الكتب التي قراءتها انا اطلعت عليها سابقا

-لا

-مممم، ماذا قرأت لشوقي بزيع لنتناقش لاحقا

-لا شيء

صدمني جوابه…فحاولت كطبيب اسعافه بسؤال

-ماذا قرأت للمتنبي

-لا شيء

صعقت قائلا: وتكملتك لبيته الشهير والسيف والر…

فرد قائلا: حفظته عن ظهر قلب لكني لا اقرأ لا أحب ولا اريد

نهرته : لا ترييييييد كيف لا تريد؟!!!… صحيح الواسطة نخرت مجتمعاتنا لكن ان تصل للكتاب وتنجسه عبرك … لا وألف لا… سأشكوك للبلدية … لا يناسبنا شخص مثلك في صرح لجميع أهل “البلد”

وقبل ان اغادر غاضبا راميا الكتب على الطاولة قال لي” اعمل لي بدك ياه يا استاذ… البلدية ما بتتخلى عني”

تسمرت وكأنه عرف اني لا املك قدرة الاستفسار قال لي

“أنا لا اجيد القراءة والكتابة… لا اجيدها لاني فقدت نعمة الظروف التي تقودني الى المدرسة منذ خمسة عقود بحكم الحرب واعتقاد ابي الراسخ بأن العلم حرام والافضل حراثة الارض واقدامه المتكرر على حرق كل ورقة تحمل احرفا ابجدية يحضرها الجار ليعلمني اصول الكتابة والقراءة الجار الذي نال نصيبه من الشتم والترهيب.. ولأني

عاجز عن تقبل نفسي عاملا أو حرفِيًّا كوني بارد الطبع بطيء الخطى وبليد في تادية اي مهنة جسمانية… اختارت البلدية بشخص رئيسها وبعد الحاح مني أن تضعني في المكتبة أمينًا حتى ابلغ سن تقاعدي بعد اخفاقي في اكثر من وظيفة… وبعد مرور سنة على حفاظي على المكتبة وتأدية ما يطلب مني بمساعدة مندوب يمر يوميا بعد ما تغادر بقليل اي اخر فترة العصر…

قاطعته قصدك أ…

اي هو بذاتو

بعدما ينقضي الشطر الاكبر من فترة العصر…يتمم ما كان مفترضا ان اتممه لو كنت عالمًا…صحيح اني اسد مكان من يحتاج لهذه الوظيفة لكني أحتاجها كي أبقى بشيبتي انيقًا…

نعم أنا عشقت الكتب عشقت ما لم استطع التعرف عليه الا يقولون كل محجوب مرغوب

الكتب كانت محجوبة عن بصيرتي، عن رؤيتي وعن هندامي الثقافي… للأسف قضيت سنين عمري أبحث عن كل شيء سوى عن حل لهمي الثقافي… لم استطع ان ارتق ما مزقه أبي من حلم كنت اجهله من شغف شعرت به لمجرد أني لهثت خلف هذه الوظيفة… نعم كثيرون يستحقونها ربما لا استحق سوى الجلوس في خيمة تضاف عتمتها الى عتمة معرفتي… لكني من اغلفتها وتصاميمها اقرأ نفسي اقرأ من غبارها تفاصيل تأخرت في قراءتها… أقرأ في التصاق الحروف الغريبة عن ذاكرتي الوان تعاستي وسعادتي، شقائي ورخائي… أطالع ما لا وجود له ربما… أطالع ريح بقائي وفنائي… نعم لهذا لا اجيبك … لأن وجودي المعتم قائم على الشك قبل العجز… المكتوب اخذ مني القدرة على التعلم والتهجئة والكتاب ومنحني شهية الشك بأحرف لن احسن التعرف على اسمائها … شكي هو نعمة … اه لو تدري كم هو ظريف ان تغامر … أن تغامر وتعيش مع كائنات لا تشبهك لا تعرف الا انها مسالمة… الكتب… كانت وما زالت بألوانها تواسيني… الكتب هي اصدق الغرباء…

ولسخرية القدر… خذ اقرأ مرسوم البلدية الذي يبارك عملي بعد سنة قضيتها دون “وجع راس”

“نصرف نحن بلدية المدينة مكافأة للعم ابراهيم مازن تقديرًا منا على حفاظه على صرح ثقافي يقي المدينة من وباء الجهل والأمراض التكنولوجية…قدرها كذا كذا …” ولم يلفتني سوى اختتام المرسوم ب “هنيئا للمدينة ومكتبتها كونها تحت رعاية الله وعبده الفقير العم ابراهيم فقيه الأميين…”

صور في ٢٨ شباط ٢٠٢١

Leave A Reply