سهير شعلان أبو زيد- باحثة
في إطار الدراسة التي قمتُ بها بعنوان “الفينومينولوجيا في ثنائيّة الروح والجسد، أدونيس وبنّيس نموذجان”، ونلتُ على أثرها شهادة الماجستير من الجامعة اللبنانية، والتي سبق وأضأت، عبر “النهار”، على الحوار الذي أجريته مع الشاعر المغربي محمد بنيس حول موضوعها، أنقل لكم الجزء الثاني من الحوار الذي أجريته مع الشاعر أدونيس.
لماذا برأيك الفرد العربي المعاصر، لا يزال يربط وجوده بمحور زمنيّ متّصل بالماضي؟ كيف تفسّر الازدواجيّة الّتي يعيشها في جسد معاصر، وفكر تقليديّ؟
إيمان العربيّ الكامل كلّه، متمحور حول السّلطة، والمال، والقتال. إذا عدنا إلى التّاريخ العربيّ الإسلاميّ، نجد أنّ الحروب لا تزال قائمة فيما بينهم. العرب منذ خمسة عشر قرنًا، لم تتوقّف الحرب بينهم شهرًا واحدًا. كيف يُفسَّر هذا الواقع؟
في المقارنة مع تجربة الغرب، الّذي لا يقلّ نهمًا عن العرب في استحواذه على السّلطة، لماذا الغرب عمل على تحرير الفرد من فكرة الجماعة، وسعى إلى تعزّيز الفرادانيّة في ارتقائها إلى الذّاتيّة؟
خاصّيّة تجربة الغرب، تكمن في خلقها المؤسّسات. كان للثّورات الفكريّة تأثير بالغ على المجتمع، والصّناعة، والعلم، والفن… وظهر ما يُعرف بطبقات العمّال. أمّا نحن، لم نمرّ بهذه التّجربة بعد، ولم نخلق مؤسّسات. لا تزال مجتمعاتنا، مجتمعات طوائف، ومذاهب، وقبائل، وعشائر.
كيف كتب أدونيس جسد المرأة، وهل يمكن أن تكون هذه الكتابة، شكلًا من أشكال خطاب جسد الكاتب؟
من المؤكّد، أنّني ما كتبته إمّا عن شيء عشته، وإمّا عن شيء أحلم أن أعيشه. لم أكتب شيئًا من الكتب أو المعاجم إطلاقًا، كتبت شيئًا عشته أو، أتمنّى أن أعيشه، أو أرجو أن أعيشه. الجسد بالنسبة لي، هو الكينونة الأولى والأخيرة بالنسبة للإنسان، ومسألة الجنّة والنّار في اعتقاديّ، غير موجودة إلّا على هذه الأرض.
العالم الدّينيّ، عالم خرافيّ، وأقل من خُرافيّ. لأنّ الخُرافة أصدق وأجمل كونها ملتصقة بالطّبيعة؛ بينما العالم الدّينيّ، هو عالم تجريديّ، عالم قائم على السّلطة، على الرّمز، وعلى المال والتّجارة، ضدّ كلّ شيء روحيّ. والدّليل أنّه في كلّ تاريخنا، لا نجد خلّاقًا واحدًا، في الشّعر، أو في التّصوّف، أو الفلسفة، كان مؤمنًا، بالمعنى التّقليديّ.
غوّرت في التّراث وجرّبت الحداثة وكنت من روّادها، فهل صالحتها وكنت جسرًا، أم تخطّيتها إلى ما بعد الحداثة؟
أعتقد أنّ هذه المصطلحات، صارت ملتبسة. يعني الحداثة الفنّيّة، ليست زمنيّة، فالرّسوم على الحجر في العصر الحجريّ، قد تكون أكثر حداثة من اليوم. لذلك نجد، كبار الحداثيّين، بيكاسو مثلًا، استلهم الماضي القديم الخلّاق، الطّبيعيّ الملتصق بالطّبيعة. من هذا المنطلق، يجب الانتباه إلى عدم حصر الفنّ بمصطلحات، أو بمناهج، أو بمفهومات.
كلّ ما يغيّر بالعلاقة بين الكلمة والشيء، بين الكلة والكلمة، بين الكلمة والقارئ، كلّ ما يغيّر هذه العلاقات، هو بالضّرورة شعر حديث. أمّا الشّعر الّذي يكرّر العلاقات القائمة، أو يعيد صياغتها، فيكون شعرًا تقليديًّا، لأنّه يعيد ما هو موجود. موجود إمّا في الذّاكرة، أو موجود في الحياة اليوميّة.
هل أنت نادم على كلّ ما فجّرت من طاقات تحديث، وتجديد، ونهوض، وتنوير، بعد كلّ هذه المآسي في ظلّ عالم عربيّ يعيش في القرون الوسطى، وعولمة لا تبالي إلّا بالهيمنة، والتّجارة وتشويه الحقائق؟
لا، أبدًا. لا أندم على شيء قمت به، إنّما أحاول أن أستفيد منه، ليكون أكثر اكتمالًا في المستقبل. بمعنى، أنا أستفيد ممّا فعلت، لا أندم على ما فعلت. هذا بحال عُدّتُ إلى ينابيع الفعل الأوّل، ولكن دائمًا أحاول أن أكون ابن اللّحظة. فأنا شخص، ذاكرته لا تعمل بإطار (النّدم)، لأنّ العالم جديد دائمًا.
ففي حين أنّنا نعيش في مجتمع واحد، ليس هناك جسد يشبه جسدًا آخر، ما الضّرورة إذًا، للذّهاب إلى جسد الماضي؟ نرى شجرة في فصل الثّمر، هي نفسها، الّتي سنراها في السّنة المقبلة، تكون شجرة أُخرى. شجرة بلا ثمر، شجرة من دون ورق، كائن آخر. فالعالم والأشياء دائمًا جديدة. العتيق، هو الأفكار الثّابتة، هو المعتقدات، هو الأديان، هذه ميادين دائمًا عتيقة، نكرّرها ونجترّها، وتعلّمنا الأديان، دفاعًا عن نفسها، أن نكرّر أيضًا الأفكار، ونكرّر القصائد، ونكرّر الشّعر حتّى تحفظ نفسها. الدّين هو التّكرار المبتذل الأوّل في العالم.
في العودة إلى الغرب، كانت الحروب في الغرب تُنتج شعراء العبث، والتّدمير واللّامبالاة، شأن ما حصل مع أراغون، وتزار، لماذا لم تنتج الحروب العربيّة سوى نصوص استثنائيّة، ونفوس عاديّة، هل الدّين، الجامد في الماضي هو السّبب الرّئيس لهذه المتعارضات والثّنائيّات والازدواجيّات؟
في تقديري أساس التّخلّف هو الدّين. والتّخلف له مستويّات، وأنواع أيضًا.
بمعنى؟
الدّين أعطى للإنسان، كما يزعم، الحقائق الأخيرة. إذًا، أعطاه المعرفة الأخيرة، وإذًا لم يعد الإنسان بحاجة لأن يسأل لكي يكتسب معرفة جديدة. لأنّ المعرفة الجديدة من منظور دينيّ، تُعتبر تشكيكًا في المعرفة القديمة الدّينيّة. وهذا أقفل باب المعرفة، مثلما أُقفل باب الاجتهاد في الإسلام الرّسميّ. فالدّين نوع من إقفال لباب المعرفة، وإذا كانت هناك نصوصٌ تدعو إلى إعمال العقل كما يزعم بعض المتديّنين، فلا يكون في العالم، وفي الوجود، وفي الإنسان، يكون إعمال العقل في النّصّ. وما نعنيه نحن من إعمال العقل، في هذا الوجود، في هذا العالم الهائل، في هذه الطّبيعة الّتي لا مثيل لها. وهذا يلغيه الدّين. فالدّين الّذي أرسله الله، استوعب كلّ هذه الأشياء وأعطى الإنسان الخلاصة، وعلى الإنسان أن يعيش بهذه الخلاصة. في هذا المعنى الدّين، أقفل باب المعرفة، وتطبيقاً لإقفال باب المعرفة، أقفل الإسلام باب الاجتهاد.
في ضوء ما تقدّم، كيف يمكن فتح باب المعرفة، وتخطّي الإجابات الجاهزة؟ ما الآليّة الّتي يستوجب اتباعها لخلق الفرد؟
لا يمكن إحداث خلق أو تغييرات، من دون تغيّرات اجتماعيّة، واقتصاديّة. الخلق، يلزمه تغيير بُنى المجتمع، حتى تتغيّر علاقاته. إذا لم تتغيّر البنية، وصار المجتمع نسيجًا واحدًا، يستحيل الخلق أو التّجديد. فالفرد، قد يتجدّد بالعدوى، أي بانفتاحه على الآخر: تجربته، عاداته، تقاليده.
أعطي مثالًا: اليوم، بعد تجربة عشر سنوات من الحرب في الرّبيع العربيّ، واختبار المتديّنين، ننظر إلى النتيجة المأسويّة للشعوب، وتدميرها للبلاد، والعباد، لقد دمّروا الإنسان. يستوجب الوضع بعد هذه التّجربة، تأسيس مرحلة جديدة، قوامها، فصل الدّين عن الدّولة. وإذا لم نقم بهذا التّغيير، ماذا تعني سوريا الآن؟ ماذا تعني ليبيا؟ أمّا إذا قمنا بالمصالحات بين الطوائف والمذاهب، تكون النتيجة دمارًا مجّانيًّا. العرب يأكل بعضهم بعضًا، من أجل سلطة لا تعني شيئًا. السّلطة في معناها الحضاريّ، تتويج لتطوّر وتغيّر عظيم في المجمع، ليست السّلطة كما هي حاصل في مجتمعاتنا، الهدف، الغاية.
أين وصلتم في هذا المستوى كتنويريّين، و”نستلجيا”، لإحداث هذا التّغيير، وإعطاء رؤية جديدة للعالم؟
لم ننجح لحدّ الآن. لأنّ أساليبنا لا تزال قديمة، وتندرج في سياق تقليديّ. نجد الشّيوعيّ مثلًأ، رغم أفكاره اليساريّة، والقوميّ الاجتماعيّ، رغم أفكاره التّقدّميّة، في ما يتعلّق بالمرأة وحقوقها والمساواة بينها وبين الرّجل، نجدهم في بيوتهم تقليديّين، لأنّ المجتمع الذي يعيشون فيه، مجتمع تقليديّ. الفرد وحده لا يمكنه التّغيير، والمؤسّسة إذا لم تتغيّر، لن يتغيّر أيّ شيء، بل على العكس من ذلك، ممكن أن يزداد تخلّفًا. والدليل، أنّ هناك بلدانًا عربيّة، كانت في السبعينيّات متقدّمة فكريًّا، واجتماعيًّا أكثر منها اليوم.
في مجال آخر، عُنيتَ بالتّصوّف، هل يمكننا نحن القرّاء أن نفهم طبيعة علاقتك بشخصيّة من الصوفيّين، وعلاقة إبداعك؟ وما رؤيتك لمستقبل هذه التّجارب، في ظلّ الطّقوس الباردة، والتّكرارت المملّة، لأيّ خطاب بين الإنسان والله، في هذه الصحراء العربيّة؟
أهمّيّة التّصوّف أنا أنظر إليها كحركة فكريّة، وليس كحركة دينيّة. هي حركة دينيّة داخل نفسها، وبحدّ ذاتها، وفي استقلال عن الإسلام. الإسلام في الصّوفيّة، كان مجرّد قناع ليحفظوا أنفسهم من القتل. وأنا في تقديري، التّصوّف أهمّ ما في التّاريخ الإسلامي على الإطلاق. وذلك لعدّة أسباب:
– أوّلًا، أنّهم غيّروا مفهموم الله في التقليد الدّينيّ. الله في التّقليد الدينيّ، قوّة من خارج العالم تدير العالم. في التّصوّف، الله طاقة مبثوثة في العالم كلّه، من أبسط شيء في العالم، إلى أعلى شيء فيه، وهو الإنسان، ولذلك الله يمكن أن يكون إنسانًا. هذا أوّل نقد لنظريّة الإسلام التّقليديّ.
– النّقطة الثّانية، والّتي أعتقد أنّها أكثر أهمّيّة، أنّ الإنسان لا يُحدّد بما يرثه، لا يُعرّف بماضيه، الإنسان يُعرّف بإبداعه. وفي هذا الـتّصوّر، الهوّيّة ليست مفروضة بشكل مسبّق على الإنسان. الإنسان، يخلق هوّيّته، في ما يخلق فكره وعمله. إذًا الهوّيّة لا تجيء من الماضي، بل تجيء من المستقبل تمامًا كالإنسان.
– المبدأ الثّالث المهم جدًّا، هو في الذّات والآخر. ولأنّ الهوّيّة تأتي من المستقبل، الذّات تحتاج إلى الآخر. لا وجود للذّات من دون الآخر. فإذًا العالم، ليس مؤمنًا وكافرًا كما يُحدّده الإسلام، العالم ذات وآخر. والذّات لا تكتمل إلّا بالآخر. الآخر بُعد تكوينيّ من أبعاد الذّات. وحركيّة العالم تأتي من المستقبل، والإنسان كائن مستقبليّ، وليس كائنًا ماضويًّا.
– النّقطة الرّابعة المهمّة أيضًا، تغيير مفهوم الواقع. إذ ليس الواقع ما نراه، الواقع أيضًا، هو ما لا نراه، ولا نستطيع أن نفهم ما نراه، إلّا بما لا نراه. لذلك نجد في هذا التّصوّر، عالمًا سُرياليًّا.
– المبدأ لخامس، وهو المبدأ الحركيّ الدّيناميّ، الّذي عمل على تغيير مفهوم الكتابة. الكتابة عند الصّوفيّة، هي نوع من الإملاء، قالوا فيها قبل السُرياليّين. فحينما يقدر الكاتب أن يسيطر على جسده بوصفه مادّة، يصبح جزءًا من أثير العالم. وحين ذاك، تسقط عليه الحروف، وتسقط عليه الكتابة، نوعًا من الوحي، ليس من الله، بل من الكون. علاقة التّصوّف بالكون. لا بالله وحده، أو بالمخلوق وحده، الكون ككلّ: خالقًا ومخلوقًا.
إذًا، التّصوّف، ثورة معرفيّة كبرى داخل الإسلام، أهمل الإسلام الرّسميّ، وكشف أنّنا نعيش في عالم مزوّرّ، أو مهمل، أو مهمّش، أو غير مخروق كما ينبغي. التّصوّف غيّر كلّ الثّقافة العربيّة، لكنّه للأسف غُيّب، ولم يعتمد عليه المتديّنون، لا بل طمسوه، ولا يزال مطموسًا حتى الآن.
هل من علاقة بين الرّسوم الّتي تبدعها، ونصوصك المختلفة بفضائها، وروحها، وحياتها؟ أين تجد نفسك مطمئنًا أكثر؟ وهل تبحث عن العطاء في حقول جديدة؟
ما اكتشفته في الرّسوم يدور في فلك الحرّيّة، حرّيّة الأصابع واليدين، مع الألوان والتّخطيط، حيث نصل إلى عالم لا يبلغه العقل وحده، أو الحلم وحده، أو المخيّلة وحدها، ففي الأصابع ولُعبها، شيء من المخيّلة. وتحدث في الألوان مصادفات، لا يُمكن أن تحدث بغيرها. هذه المصادفات اللّونيّة، هذه اللّقاءات غير المنتظرة، وغير المحسوبة، تخلق عالمًا جماليًّا قريبًا لعالم الطّفولة. في الرّسم حرّيّة في استخدام الأصابع، أكثر ما هي في استخدام الرّأس. وهنا تكمن أهمّية الجسد، فعندما تُعطي مخيلةٌ الحرّيّة للجسد، تُخلق عوالم لا مثيل لها.
يرى المفكّر علي حرب، وهو الّذي تشغله مسألة الحقيقة، أنّ أكثر من ينتهك الحقيقة هم عُشّاقها من الفلاسفة ورجال الدّين، الّذين يدّعون احتكارها. إلى أيِّ مدًى ينطبق هذا القول مع حقيقة الجسد؟ وهل هذا يعني أنّ الشّعراء هم الأجدر في الحديث عن هذه الحقيقة؟
هناك مروحة كبيرة تتحرّك فيها الحقيقة، تبدأ من الجسد، وصولًا إلى المطلق. فالحقيقة بالنّسبة للمطلق شيء، والحقيقة بالنّسبة لتجربة شعوريّة عاشها عاشق أو عاشتها امرأة شيء آخر. هناك حقيقة مشتركة، عامّة، نسمّيها حقيقة علميّة. حتى الحقيقة العلميّة، غير ثابتة. ومع أنّ مبدأ النّسبيّة ملاصق لمفهوم الحقيقة، إلّا أنّ النسبيّة أيضًا مفهوم غامض، نسبيّة بالنّسبة لمن؟ فإذا كانت للفرد مختلفة، وإذا كانت للرّجل مختلفة، وللمرأة مختلفة…
الحقيقة إذًا مصطلح يتّفق عليه بشر بفترة محدّدة، وظروف معيّنة، بسياقات معيّنة، ولكنّها تتغيّر مع مرور الزّمن. لكن، إذا نظرنا إلى العلاقة بين رجل وامرأة، نجد أنّ لكلّ علاقة بين جسدين حقيقتها الخاصّة، لا يمكن أن تكون نفس الحقيقة ذاتها مع جسدين آخرين. قد نجد مثل هذه التّجارب في الشّعر القديم، لكنّ العرب لا يقرؤون. هناك بيت شعر لامرئ القيس، يوحّد فيه العلاقة بين ما يسمى الحبّ كروح، والحبّ كعلاقات اجتماعيّة. وأنا أعتقد لو فرويد قرأ هذا البيت، لغيّر نظريّاته. ففي مسألة الحقيقة، كلّ ما هو مشترك، مختلَف عليه. لكن، كلّ ما هو شخصيّ ليس دائمًا متّفقًا عليه. في الأخير، ما يمكن أن نسمّيه حقيقة، هي الحقيقة الّتي يعيشها الفرد بأعماق كينونته.
المصدر: النهار